" ،
الحتة اللي بتحلم فيا " ديوان بالعامية المصرية للشعرة الموهوبة وفاء بغدادي وقد صدر الديوان عن فرع ثقافة الإسكندرية سلسلة أصداف سكندرية ضمن مشروع النشر الإقليمي وعنوان الديوان يعكس كتابة عن جزء محدد هو وحده الذي ينبض ويعيش ، إن طاقة الحزن الكامنة والمسيطرة على العنوان ليست خافية إن الجسد كله ميت ساكن يائس والوطن كذلك ولا حياة إلا في جزء صغير " حتة " هي وحدها التي تحمل الحلم والأمل وبفضل نور هذه الحته يعيش الإنسان بجسده ، ويستمر الوطن في دورته التاريخية ، وهذه الكتابة على ما فيها من يأس وإحباط فهي تحمل حياة وتمثل قوة إن الاعتراف بالعجز ورؤية الإحباط والانكسار هو بداية العلاج للخروج من النفق المظلم للوطن / الجسد في محاولة للوصول إلي القدرة وتحقق الإرادة الإنسانية لتحقيق الانتصار !
تكتب وفاء في إهدائها نفس الرؤية الحزينة التشاؤمية : " جئت إلي الدنيا عارية من كل شيء إلا الهم .. وأخرج منها تاركة كل شيء إلا الهم فإلي من تحملت همي وشقيت به .. إلي أمي .. وإلي من علموني ألا أموت وماتوا: " لك أن تتخيل أن الذين يعلموننا عدم الموت قد ماتوا بالفعل ؟ ( لنلاحظ الأسلوب المطاط قليلا ) ، والقصيدة الأولي في الديوان الذي يضم حوالي خمسين قصيدة تحمل عنوان " يوتوبيا " في هذه القصيدة الملأي بالحزن والمعبأة بالفلسفة السوداوية نرى انقسام الذات على نفسها ، ذات تحمل المعاناة داخلها وذات أخرى مفترضة تتخيل الذات الأولي أنها سليمة وخالية من الحزن ولا تحس بالمعاناة والألم الذي تتنفسه الذات الأولي لذلك تبثها شكواها ونجواها وألمها و لكأن الذات الأولي هي الذات الشاعرة ولكأن الذات الأخرى هي كل العالم الذي يتحرك دون مبالاة ودون إحساس بمتاعب وآلام الآخرين تقول وفاء : " جربت أنك تحضن نفسك م الخوف .. وتخش ف آخر حتة ف قلب سريرك وتطبطب على نفسك وتقول معلهش " أي قسوة في هذا العالم الذي لا يملك الفرد فيه إلا أن يحضن نفسه بسبب الرعب والخوف ؟ .. وأي سوداوية يحملها العالم حين لا يجد الإنسان قلبا يدخله ويحتمي به غير قلب السرير ! إحساس شديد الوطأة بالوحدة والعزلة والخوف ، إن الذات في هذا النص ذات تعيش في قمة الألم الذي ينتج إبداعا نستمتع به " حسيت إنك ميت / كل مقابر أرضك رافضاك .. بتجرف قلبك من تحت أقدام الناس ترميه .. يطلع لك رد سؤال البنت : ليه مالح دايما طعم البحر ؟ " وفي قصيدة " حالة " تتجلي معاناة الذات الشاعرة مع العالم ومع الزمن : " واحد وثلاثين اتناشر : وعقارب ساعتي في حالة عشق .. باتعلق ف حبال بلكونتى اللي الناس عماله تصر إنها دايبة مع إنها مسكاني كويس
" إنه آخر يوم في عام مضي دون رجعة حالة وقوف أمام مستقبل مجهول وعقارب الساعة تعكس اللهفة والحركة المستمرة باتجاه المستقبل الغامض المجنون ولكن الذات الشاعرة لا يمكن أن تكون مثل عقارب الساعة لا يمكن أن تتجرد من الماضي إنها ذات معلقة في حبال البلكونة ، العالم يقول : إنها حبال دايبة والذات الشاعرة وهي مأسورة في الحزن تكفيها هذه الحبال الذائبة إنها النافذة الوحيدة على العالم وأمام تصاعد الحزن في النص فإن قصيدة حالة تسجل موقفا رافضا للعالم " واحد وثلاثين اتناشر .. وعقارب ساعتي في حالة صمت وبتحسم لحظة من لحظات الموت .. أول حاجة أعملها .. تقطيع كل حبال بلكونتي .. " وديوان وفاء يحتفي بالحزن وتشكيلاته المتحركة أمام الذات المستقبلة له في ثبات وسكون وليست هناك أي محاولة لتجاوزه سوي بتعريته وكشفه للآخرين من خلال الكتابة عنه وفضحه على الملأ ، وبسبب الرصيد الحزين واكتسب العديد من قصائد الديوان ملمحا فلسفيا وقدرة على تشكيل الصورة الشعرية الجيدة المكثفة والتي تعطي دلالات كثيرة عميقة بأقل عدد من الكلمات ، وقصائد الديوان ظاهر أنها لا تمثل مرحلة كتابية واحدة بل بعضها يحمل عبق التجارب الشعرية الأولي وبساطة التراكيب الشعرية وأحادية الفكرة فبعض القصائد وإن كان يحمل شكلا جديدا إلا أنه يحمل روح الزجل الذي يذكرنا بالرائد السكندري عمنا بيرم التونسي كقصيدة " جاتني " والتي تقول فيها وفاء : جاتني أيوه جاتني .. جت وحكت لي .. إزاي قلت لها بحبك " وكقولها في قصيدة " ماريونت " شمعة قايدة بإيدك تطفي .. بإيدك تقيدها .. صحيح أنت فرحي . بترسم ملامحي .. ولما بتحزن .. تزود في جرحي " إن وفاء بغدادي شاعرة موهوبة قاربت الحصول على صوتها الخاص وبصمتها المتميزة وإن كانت بصمة وخصوصية مشحونة بالحزن والتشاؤم ولكنها مفعمة بالأمل أي أمل ؟ الأمل الذي يبدأ بالإمساك بالقلم وتحجيم طاقة الحزن وإيداع عفريت اليأس في قمقم القصيدة التي تكبر في قلب قارئها الذي يشارك في اكتشاف النص الأدبي الجيد .. وأخيرا فلنقرأ هذه المقطع الأول في قصيدة " نور " لوفاء بغدادي : " كل ما يضيق قرص الشمس بامسك طرق النور واتخبى .. وافتح طاقة ف قلب الليل .. علشان يهرب منها الخوف .. ألقي ف قلبي الخوف يتعبي " !
محمود الأزهري