الـمـصـباح .. مـجلـة نـوافـــــــــــــذ ثـقـافـيـة
للنشر .. شبكة المصباح الثقافية مجلة المصباح .. نوافذ ثقافية شارك معنا ..نرحب بكم ونتمنى لكم الفائدة وباب المشاركة مفتوح سجل معنا واكتب موضوعك ومشاركتك اهلا بكم
الـمـصـباح .. مـجلـة نـوافـــــــــــــذ ثـقـافـيـة
للنشر .. شبكة المصباح الثقافية مجلة المصباح .. نوافذ ثقافية شارك معنا ..نرحب بكم ونتمنى لكم الفائدة وباب المشاركة مفتوح سجل معنا واكتب موضوعك ومشاركتك اهلا بكم
الـمـصـباح .. مـجلـة نـوافـــــــــــــذ ثـقـافـيـة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الـمـصـباح .. مـجلـة نـوافـــــــــــــذ ثـقـافـيـة أدبية منوعة
 
الرئيسيةدروب أدبيةأحدث الصورالتسجيلدخول
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للموقع، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـــات،  كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل إذا رغبت بالمشاركة في الموقع، أما إذا رغبت بقراءة المواضيع والإطلاع فتفضل بزيارة القسم الذي ترغب أدناه.
كما يكنك إضافة مقالك عبر /  إتصل بنا /

 

 ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
للنشر

للنشر


المقالات : 707

ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  Empty
26032011
مُساهمةملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى

دراسة نشرت في مطلع تشرين الثاني 2005م‏

الجزء الأول

مقدمة

هذا كتاب في ملامح الرواية العربية في سورية يحاول فيه مؤلفه أن يُسهم في استجلاء الصورة التي وصلت إليها هذه الرواية، وأن يوضّح أبعادها واتجاهاتها، وبخاصة أنَّ الجنس الروائي قد قطع شوطاً لا بأس به في بلادنا، واهتمّت به المؤسسّات والقرّاء، حتى غدا اليوم ديوان العرب الجديد، فملأ الدنيا وشغل الناس لانتشار السينما والتلفاز والدراما والسرديات من جهة، ولاهتمام هذا الجنس بالحياة والمشكلات العامة للناس من جهة أخرى، وثمة كتب ودراسات في هذا المجال، ولكنَّ ذلك محصور في البحوث الأكاديمية التي تُدبج بقصد الحصول على اللقب العلمي، وهي كثيرة جداً، والفائدة المرجوة منها قليلة، أو الدراسات النظرية التي تنقل أكثر مما تكتشف وتبدع، ولذلك وجدت من المفيد أن يتلاقى الوجه النظري بالوجه التطبيقي، ليكون المحصول قريباً من المتلقي فجاء هذا الكتابُ في قسمين: يتضمن القسم الأول محور الرواية فنيّاً وتاريخياً في سورية، وقد تعرّضت فيه لأربعة موضوعات: مصطلح الرواية، وأنواع الرواية في سورية، ثمَّ وقفت عند الرواية العربية في مرحلة البدايات مركّزاً على دور سورية فيها، لأخلص إلى بنية الرواية التاريخية في سورية لأهميتها، وخصوصاً في هذه المرحلة. أما القسم الثاني فقد خُصّص للتطبيق، وهو يتضمن ثلاثة محاور اقتصر الأول منها على دراسة ثلاثة نصوص روائية لعبد الكريم ناصيف لغزارة إنتاجه، وتفرّد المحور الثاني بقراءة دلالية لرواية "المنخورة" لعبد الإله الرحيل، في حين توزّع المحور الثالث في دراسة المكان في الرواية على ثلاث روايات لكلِّ من خيري الذهبي وباسم عبدو والياس أنيس الخوري.‏

وإذا كان لابدّ من الحديث عن المنهج الذي استعنّا به في هذه الدراسة فهو المنهج الفنّي الجمالي التحليلي في التطبيق (القسم الثاني)، وحاولنا أن نبحث عن الجماليات التي تضيفها هذه الرواية أو تلك إلى المتلقي، فالرواية عمل فنّي متكامل أولاً وأخيراً، ولابدّ من أن تكون ذات خصوصية واستقلالية، كالقصيدة تماماً، ثمّ إننا لجأنا إلى عملية الاختيار النّصّي، ولا يعني ذلك أن النصوص المدروسة هي الأكثر جودة، وليس هذا من غرض الناقد والنقد، ولاسيّما أنّه إزاء نصّ يختبره ويفككه ويُعيد قراءته وإنتاجه، ويبيّن ما لـه وما عليه، ثمَّ إنّ نظرة سريعة إلى كميات الإنتاج الروائي في أيّ قطر من الأقطار العربية اليوم، وبخاصة في سورية، تبيّن لصاحبها أنها في تصاعد مستمر، وهي مختلفة فنيّاً بين الجودة والرداءة، والإنتاج متعدّد ومتنوّع ومختلف ومتداخل، وبما أننا لجأنا إلى الاختيار فإن أسماء كثيرة غابت عن هذه الدراسة، إمَّا لأن كثيراً من الأبحاث والدراسات قد تناولتها، وصار الحديث عنها من فضول الكلام، كروايات حنا مينة، وعبد السلام العجيلي وغادة السمان وياسين رفاعية وفارس زرزور، وإما لأنّ الدارس قد قصّر في الوصول إليها أو معرفتها في زحمة الإنتاج، ولكنَّ الأهمّ من ذلك كلّه أنّه قد قدّم صورة واضحة عن ملامح الرواية العربية في سورية، وهذا ما سعى إليه.‏

وثمة مشكلة أخرى في المنهج يمكن أن يطالعها القارئ بسهولة في القسم الأول، وهي التطرق في الحديث عن بدايات الرواية العربية إلى روايات جورجي زيدان وسليم البستاني ومحمد المويلحي وأمثالهم، وتسويغ ذلك سهل، وهو أنّ الرواية بدأت في بلاد الشام، ثم انطلقت إلى مصر، وقد ظلت بلاد الشام موحدة إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى إثر تطبيق معاهدة سايكس بيكو، ثمَّ إن نشأة الرواية العربية في سورية ليست منفصلة عن الرواية العربية في لبنان ومصر، ولا سيما بعد أن ازدهرت مع نجيب محفوظ، فردّت مصر للشاميين الدين الذي كان عليها، فالثلاثية التي اشتغل عليها محفوظ انتقلت بصورة أو بأخرى إلى روايات في سورية والعراق والأردن ولبنان... أما الوقوف عند رواية "طقوس المنفى" لالياس خوري في القسم الثاني، فهو مشروع أيضاً... صحيح أن هذا الروائي فلسطيني الأصل وأنّ موضوع روايته فلسطيني هو الآخر، ولكنَّ هذا الكاتب يعيش في سورية، ويعمل فيها، وهو نتاج ثقافتها، وليس موضوع روايته غريباً عن موضوعات الرواية العربية في سورية، وهو وضع المخيمات الفلسطينية، ولذلك جاءت دراسة هذه الرواية لتسدّ نقصاً، وبخاصة أنّ إسهام المثقّف الفلسطيني في سورية وسواها ليس بسيطاً ولا عاديّاً.‏

وبعد، فإن كنتُ قد أسهمت في إضاءة ملامح الرواية العربية في سورية في هذا العمل المتواضع فهذا ما كنتُ أسعى إليه، وإن كنتُ قد قصّرت عن بلوغ السعي فإنّني ألتمس المعذرة، لأنّ الجهد الإنساني معرّض للتقصير والاستدراك،‏

الجزء الثاني

ـ أنواع الرواية في سورية

النقد ابن التفكير الإنساني، وهو ميَّال إلى التصنيف منذ نشأته، ولكلّ ناقد كبير معاييره في هذه العملية، فقد انطلق أفلاطون من منظور الأخلاق والفلسفة والمنفعة العامة حين طرد من المدينة الفاضلة (الجمهورية) شعراء الرذيلة، وأبقى على شعراء الفضيلة حسب معاييره السالفة، وقد أهمل هذا الفيلسوف المعايير الفنية لغلبة معاييره عليها حسب وجهة نظره، ولكنَّ تلميذه أرسطو خالفه فيما ذهب إليه لاختلاف المعايير، فقدّم المعيار الفنيّ على سواه، وكان كتابه "فنّ الشعر" عملاً تأسيسياً للنقد، فقدّم الشعر الموضوعي على سواه، وذهب إلى أنّ المحاكاة لا تكون إلا في الشعر التمثيلي، وهي في محاكاة الموضوع، ويختلف الموضوع حسب طبيعة أبطاله، أخياراً كانوا أم أشراراً، فالشعراء يحاكون إما من هم أفضل منَّا أو أسوأ، وهذا الفارق يميّز التراجيديا من الكوميديا، فهذه تصوّر الناس أدنياء، وتلك تصوّرهم أعلى من الواقع(1).‏

لم يكتفِ أرسطو بهذا المعيار الذي قد يكون قريباً من معيار الأخلاق الأفلاطوني، وإنَّما استخدم معياره الفنيّ بقوة، فذهب إلى أنّ في الشعر جنساً أعلى وجنساً أدنى، فالتراجيديا هي الجنس الأعلى، والشعر الغنائي هو الجنس الأدنى، ولذلك نفاه من كتابه أو ألحقه بالموسيقا، ثم ذهب في تصنيفاته إلى أنّ الشعر جنس، وأنواعه التراجيدي والملحمي والغنائي.‏

ظلّت قضية التصنيف ملازمة لتناول الأدب ودراسته منذ أفلاطون إلى يومنا هذا، وإن اختلفت الأدوات والمعايير، وقد تجلّت هذه التصنيفات في كتابات القدماء والمعاصرين (أفلاطون ـ أرسطوـ هوراس ـ هيغل ـ لوكاتش ـ تودوروف ـ جينيت...الخ)، ولكن لابدّ من الاعتراف بأن المعايير اختلفت في هذه التصنيفات، ولذلك اختلفت التصنيفات، فهناك معايير المضمون والموضوع، ولذلك كانت تسمية الرواية بتسمية موضوعها، كالرواية التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية أو البوليسية أو العاطفية أو سوى ذلك، وثمة المعيار الأيديولوجي، كتصنيف الرواية إلى رواية هادفة ورواية نقيض ذلك، وثمة التصنيف الطبقي، كالرواية البرجوازية والرواية البروليتارية، وثمة التصنيف البيئي، كالرواية المدنية والرواية الريفية، وثمة التصنيف الغائي، كرواية التسلية ورواية التثقيف، وثمة التصنيفات الفنية، كرواية الحدث أو رواية الشخصية (تيار الوعي)، أو رواية المكان، ثم هناك الرواية ذات الأصوات المتعددة، أو الرواية الغنائية ذات الصوت الوحيد، أو الرواية التحليلية والرواية الرمزية، وثمة تصنيفات أخرى يصعب حصرها اليوم، ولكن لابد من عرض ثلاث ملاحظات قبل الدخول في هذا الموضوع، وهي سرعة التحولات الروائية، ورفض مقولة الأجناس، وقضية العنصر المهيمن، فالرواية أولاً جنس أدبي سريع التحوّل، وهو جنس لقيط، وإن ادّعى لوكاتش بأن الرواية ملحمة البرجوازية، فهناك من يذهب إلى أنها بنت الرومانس، وفيها من التاريخ والأيديولوجيا والدين والشعر والترجمات وكتب الرحلات وسواها الشيء الكثير، ولذلك كانت الرواية بلا نسب صريح، ثم هي شبيهة بفاتح جبَّار يسخّر البلاد التي يفتتحها لمصلحته، ثم هو فاتح لا يعرف التوقف عند حدّ من الحدود، ولذلك هو يساير الحياة نفسها، ويتطوّر بتطورها، هو جنس لا ينظر إلى الوراء أبداً، ومن هنا نفسّر ما ذهب إليه أحد الدارسين من أن الرواية تستعصي على التعريف والتصنيف على نقيض الشعر والمسرحية: "أما الرواية فيبدو أنّها تحظى بتجربة مطلقة فهي كمادة سيميائية معقّدة وغير متجانسة تستعصي على التصنيف وتقاوم كل محاولة تعريفية"(2).‏

والملاحظة الثانية رفض مقولة التصنيفات والأجناس الأدبية، وقد بدأت هذه الحركة مع الرومانسية وتجاوزاتها لمحاكاة أرسطو والثورة عليها، وتعزّزت مع الفيلسوف والناقد الإيطالي بندتو كروتشه الذي رفض بشّدة الحدود التي أقامها أرسطو بين الأجناس الأدبية وسار عليها الكلاسيكيون من بعده، فقال: "إن تقولوا هذه ملحمة أو هذه دراما أو هذه قصيدة غنائية فتلك تقسيمات مدرسية لشيء لا يمكن تقسيمه(3)، ثمَّ تعززت هذه الفكرة مرّة أخرى في مقولة "الأدبية" التي كانت نتاج الشكلانية الروسية بعامة، ورومان ياكبسون بخاصة، صحيح أن هذه المقولة لجأت هي الأخرى إلى عملية التصنيف: أدب/ لا أدب، ولكنَّها شملت في مفهوم الأدبية الأجناس جميعها، ثم جاءت ثورة رولان بارت على هذه التصنيفات القديمة. أما "الكتابة" فهي الأدب النموذجي، وهي تهشم كل تصنيف، ولا تنتج إلا النصوص، والنص لا يُصنَّف، وحضوره يلغي الأجناس الأدبية(4)، ولذلك سار هذا الاتجاه في أدب الحداثة وما بعدها سريان النار في الهشيم، فبدأ الحديث عن أدب اللانوع واللاقصيدة واللارواية واللامسرحية، والمقصود من ذلك كلّه أنَّ طبيعة الأدب الجديد مختلفة، عن طبيعة الآداب القديمة ذات الحدود، وهذا ما ذهبنا إليه في دراستنا عن "القصيدة المتكاملة" التي تحوّلت عناصرها الغنائية بتفاعلها مع العناصر الدرامية إلى قصيدة مختلفة، ذلك أن العمل الغنائي لا يخلو في عرف النقاد من العناصر الدرامية أو الملحمية، كما لا تخلو الدراما الناجحة من العناصر الغنائية والملحمية(5)، والحقيقة أن النصوص الأدبية بدأت بالتداخل منذ الرومانسية التي ارتكزت على الإيقاعات الغنائية الصافية، وانتشرت في القصائد والمسرحيات والروايات والاعترافات، ثم تطور ذلك في قصائد لوتريامون وأبولينير والسرياليين، ولكنَّ الرواية غزت الأجناس والعلوم والمعارف فانتقلت من الكتابة النوعية إلى الكتابة اللانوعية، وصار المبدع لا يتقيّد في أثناء الكتابة بالحدود، وإنما يترك نفسه على سجيتها لإنتاج أدب جديد.‏

أما الملاحظة الأخيرة فهي ما يُسمَّى بالعنصر المهيمن، وهي مقولة هامة في هذا المجال، بل هي تعيد للتصنيف شيئاً من مشروعيته، وذلك لأن اللاقصيدة هي في نهاية الأمر قصيدة متطورة، واللامسرحية مسرحية جديدة، واللارواية رواية، وذلك حسب مقولة العنصر المهيمن المتحولة من العنصر الطاغي في الشكل العضوي ووحدة القصيدة من وجهة نظرنا، فلابدّ من أن يبقى في اللارواية نسبة كبيرة منها ومن عناصرها يقرّبها إلى هذا الجنس دون سواه، وإن تداخلت فيه عناصر من هنا ومن هناك، ولذلك كان لابدّ في أيِّ دراسة من العودة إلى هذه التصنيفات والتقسيمات، ثمَّ إنَّ أنواع الرواية تختلف بين بيئة وأخرى وزمن وآخر حسب ما هو موجود على أرض الواقع من روايات، ففانست في "نظرية الأنواع الأدبية" (1908) يذكر أهم أنواعها، وهي: 1 ـ رواية المغامرات. 2 ـ الرواية العاطفية. 3 ـ الرواية المتصلة بالتحليل النفسي أو بالتحليل الخلقي. 4 ـ الرواية ذات الهدف والرسالة. 5 ـ الرواية الخاصة بالعادات والأخلاق. 6 ـ الرواية الوصفية. 7 ـ الرواية التاريخية(6)، ومع ذلك فإن هذا التصنيف يعود إلى الرواية الأوروبية في العصر الذي أنجز فيه فانست كتابه هذا.‏

وإذا كان ما يشكّل النوع الأدبي هو مجموعة من القواسم المشتركة في الموضوعات والأساليب والعلائق النصية، فإن التصنيف الأكبر يكون بين نوعين كبيرين: شعر ونثر، أو أدب ولا أدب، وهذا ما تجلّى في مقولة "الأدبية"، وإذا كانت الرواية هي الجنس المقصود بالتصنيف، وهي النوع الأكبر فإنها تتفرّع إلى أنواع صغرى لا تحصى، كالرواية التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية أو البوليسية، ويكون التصنيف أحياناً تبعاً لموضوعاتها، كالرواية الوجدانية والوطنية والقومية...الخ، أو تبعاً للمذاهب الأدبية، كالرواية الرومانسية أو الواقعية أو الوجودية، وقد تتفرَّع هذه الفروع الصغرى إلى فروع أصغر، فالرواية التاريخية ـ مثلاً ـ تتفرّع إلى رواية التاريخ والرواية التاريخية الفنية، ورواية استلهام التاريخ، والرواية الاجتماعية تتفرع حسب موضوعاتها إلى الرواية الوجدانية أو الرواية التي تعالج مشكلة اجتماعية أخرى، كالفقر أو العدالة أو ما شابه ذلك، وقد قسَّم طه وادي أنواع الروية إلى ما يلي:‏

1 ـ رواية تاريخية. 2 ـ رواية اجتماعية. 3 ـ رواية بوليسية. 4 ـ رواية الخيال العلمي. 5 ـرواية عاطفية. 6 ـ رواية سياسية. 7 ـ رواية ملحمية. 8 ـ رواية درامية. 9 ـ رواية السيرة الذاتية. 10 ـ رواية تحليلية نفسية. 11 ـ رواية تيار الشعور. 12 ـ رواية الأجيال. 13 ـ رواية تسجيلية. 14 ـ رواية أسطورية أو فلكلورية. 15 ـ رواية الحدث. 16 ـ رواية الشخصية. 17 ـ الرواية الفلسفية أو الرمزية. 18 ـ رواية الأصوات المتعددة. 19 ـ مسرواية. 20 ـ الرواية الجديدة. 21 ـ رواية اللارواية (أو رواية الشكل المفتوح)(7)، وإذا كان هذا التصنيف تجميعيّاً عشوائياً يستند إلى معايير مختلفة، كالمعيار الاجتماعي والمعيار الفني والأجناسي والمدرسي، وهو ينطلق في الوقت ذاته من أنواع الرواية في الغرب، فإنّ حديثنا هنا عن أنواع الرواية سيقتصر على أنواعها المنتشرة في الرواية السورية، ولا بأس من أن نستأنس أولاً بهذه الأنواع التي جاءت في بعض المعاجم الاصطلاحية، وأهمّها: 1 ـ الرواية التاريخية. 2 ـ الرواية الاجتماعية. 3 ـ الرواية السياسية. 4 ـ الرواية السيكولوجية. 5 ـ الرواية الاجتماعية. 6 ـ الرواية الخيالية العجائبية. 7 ـ رواية الحدث. 8 ـ رواية المكان. 9 ـ الرواية الدرامية...الخ(8).‏

ومع ذلك فإنّ بعض هذه الأنواع يهيمن في مكان ويندر في مكان آخر، ولذلك كان الحديث عن الأنواع المنتشرة في الرواية السورية هو المقصود هاهنا، ومنها:‏

1 ـ الرواية التاريخية: مصطلح روائي فضفاض يتضمّن التاريخ بشكل عام، كأن يتضمن في الرواية التاريخ السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، وتاريخ المنظمات والانقلابات وسوى ذلك، كما يتضمن تاريخ الشخصيات الشهيرة، ولذلك ليست الرواية التاريخية واحدة في مسارها واتجاهاتها الفنية وموضوعاتها وإن كانت سرداً تخييلياً يرتكز على وقائع تاريخية، وبين الروايات التاريخية بون شاسع، فنحن نُطلق هذا المصطلح على روايات جرجي زيدان ومحمد سعيد العريان ومعروف الأرناؤوط، كما نطلقه على بعض روايات حنا مينة ونجيب محفوظ وجمال الدين الغيطاني، مع أن ما سعى إليه زيدان تنويري في حين أن الغيطاني سعى إلى الفني، وهذا أمر طبيعي في تطور هذا النوع من الروايات، فبيْن الغيطاني وزيدان عشرات السنين قطعت فيها الرواية شوطاً كبيراً في تقاناتها وتحولاتها الفنية وموضوعاتها التاريخية، والرواية التاريخية موضوعات، ففي "عبث الأقدار" و"كفاح طيبة" لنجيب محفوظ برزت الرواية التاريخية الفرعونية، في حين برز التاريخ المصري الحديث في الثلاثية من خلال أسرة أحمد عبد الجواد، ومع ذلك فإننا إذا وقفنا عند إجابة محفوظ عن سؤال عن العلاقة بين الرواية والتاريخ في قوله: "في رأيي أنَّ العلاقة وطيدة، فالرواية عبارة عن استعراض للحياة اليومية بكلّ مشاكلها وقضاياها وأشخاصها... هذا جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون. ثمَّ إنّ التاريخ عبارة عن أحداث وأشخاص وتفسير ورؤية، والرواية كذلك"(9)، أدركنا أنَّ عبارة محفوظ "الرواية جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون" تُخرج كثيراً من الروايات التي نُطلق عليها مصطلح الرواية التاريخية من جنس الرواية، ومن ذلك مثلاً أعمال معروف الأرناؤوط وجرجي زيدان ومحمد سعيد العريان وأضرابهم الذي اهتموا بالتاريخ أكثر مما اهتموا بالفنّ الروائي والتخييل، فكان التاريخ هدفهم، كما تُخرج بعض روايات نجيب الكيلاني الذي شُغل فيها بالتاريخ والخطاب الديني عن الفن، فوقع في مطبَّات فنيّة كثيرة‏

(10).‏

ترصد كثيراً من الروايات السورية مرحلة الاستعمار الفرنسي في مكان ما من البلاد، ففي رواية "المصابيح الزرق" 1954 أولى روايات حنا مينة صور من النضال في مدينة اللاذقية ضدّ هؤلاء المحتلين، ففي أحد الأيام الجماهيرية الغاضبة على السلطة الفرنسية تمت المواجهة في الشوارع المحيطة بجامع القلعة، ثم اشتدت، فامتدت إلى مقهى الشاروخ، وخرج محمد الحلبي يتحدّى جنود المستعمر، فلما دخل إلى الجامع قال:‏

ـ هاتوا البيارق:‏

وارتفع بمثل اللمح علم كبير، ركز محمد ساريته في خاصرته، وانتشرت أعلام أخرى حوله، وبدأ النشيد:‏

"أنت سورية بلادي".‏

وقال قائل: المصفحات حاصرت الجامع. فصاح محمد الحلبي، افتحوا الأبواب الخلفية.‏

واستمرّ النشيد (...) وتحرّك محمد الحلبي، والجماهير خلفه، وسار الجميع من صحن الجامع إلى الشارع، ولحقت بهم نسوة كنَّ في المؤخرة، فصاح بهنّ الحلبي: اطلعوا قبلنا... اصمدوا فقط حتى تخرج البيارق. وخرجت النساء مؤزرات وسافرات، وتدافع وراءهن المتظاهرون ينشدون"(11).‏

ويرصد جميل سلوم شقير مرحلة الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في جبل العرب من خلال بطله عساف في روايته "التجذيف في الوحل"، وفيها صفحات لأحداث تاريخية معروفة كرحيل الثوار إلى بادية الأزرق ووادي السرحان في الأردن، وأحداث المسيفرة والمزرعة ووقعة تل الخروف وسواها(12)، وكذا شأن رواية "سورين" لمحمد رشيد الرويلي التي تُعيد إلى الأذهان تاريخ مدينة دير الزور في مقارعة الاستعمار التركي والإنكليزي والفرنسي بقيادة على بك، فلخّصت الرواية تلك المدينة وانتصار أهلها على الفرنسيين في معارك طاحنة جرت بين العرب والأرمن من جهة، والمستعمرين من جهة أخرى(13).‏

وإذا كانت الرواية تركز على الزمن، وهو ضابط الفعل، وبه يتمّ، وعلى نبضاته يسجّل الحدث وقائعه، فإنَّ ذلك يعني أنّ أيّ نوع من أنواع الرواية ينتمي إلى الرواية التاريخية، سواء أكانت الرواية سياسية أو اجتماعية أن ثقافية...الخ، فالتاريخ شامل حافظ، والزمن عنصر لا غنىً عنه لأيّ سرد، والسرد لغة، وإن كانت اللغة السردية مختلفة في الكتابة التاريخية الواقعية عن مثيلتها في الكتابة الروائية التخييلية، ولاشك في أنّ حركة السرد الروائي مختلفة من حيث التقديم والتأخير والتتابع والانقطاع والتسلسل والتباعد، وإذا كانت القوانين الزمنية الخارجية تحكم الكتابة التاريخية فإن القوانين الزمنية الداخلية (الفنية) هي التي تحكم الكتابة الروائية، فالحركة في الزمن الخارجي تجري على نسق معروف، فلا تباطؤ ولا سرعة، ولا حذف، ولا استرجاع، لكنَّ الأحداث في الرواية تتسارع حيناً، وتتباطأ حيناً وفق أهميتها وخدمتها لعالم الرواية، وينبغي أن نفرّق بين ثلاثة أنواع من الأزمنة في السرد الروائي، وهي:‏

أ ـ الزمن الذي تجري فيه أحداث الرواية، وهو زمن داخلي عضوي أساسي، ويُسمّى زمن المغامرة الروائية، وقد يكون في الزمن الماضي البعيد كـ"سفر التكوين" أو القريب، وقد يجري في الزمن الذي نعيش فيه (الحاضر)، وتدلّ عليه إشارات وقرائن أو يحدِّد بتاريخ معروف، كالثورة السورية الكبرى سنة 1925، كما في رواية "التجذيف في الوحل" لجميل سلوم شقير، أو انقلاب حسني الزعيم، كما في رواية "المنخورة" لعبد الإله الرحيل، وقد يكون زمن الأحداث طويلاً متسعاً في روايات الأجيال، كما هي الحالة في "الثلاثية" لنجيب محفوظ، و"العصاة" لصدقي إسماعيل، و"الطريق إلى الشمس" لعبد الكريم ناصيف، أو يكون ضيّقاً قصيراً ببضع لحظات يقتضيها إعلان الحكم بالإعدام، ولذلك فإنّ الكاتب مضطر إلى أن يستخدم طرقاً مختلفة: مختصرات، قفزات فجائية في الزمن، حذف، تسريع، أو يستخدم مؤشرات زمنية مباشرة، ليسهم في بثّ الشعور بالزمن الذي تجري فيه الأحداث، كقوله مثلاً: مرّ عام أو خريف أو شتاء، و"إنّ السرد حتى في أبسط أنواعه لا يكتفي باختيار عدد محدود جداً من عناصر المغامرة التي يرويها، بل يستخدم هيكلاً زمنياً معقداً نسبياً يجري التعبير عنه بوساطة الاستباق أو العودة إلى الوراء أو تراكب الأحداث، أو التداخل، وهكذا..."(14).‏

ولأساليب السرد صلة بإيقاع الرواية، فثمة أحداث روائية سريعة وأخرى بطيئة، فرواية تتضمن أحداثها مئة عام ولا تزيد صفحاتها على المئة، ورواية تجري أحداثها في عام واحد وتزيد صفحاتها على الألف، ففي الأولى يتم تسريع إيقاعية الحركة الروائية بالإشارات الزمنية والانتقال من عام إلى عام أو ما شابه ذلك، وبالحذف والاختصار للوصول إلى النهاية، ومن هذه الروايات "العصاة" لصدقي إسماعيل، و"الطريق إلى الشمس" لعبد الكريم ناصيف، و"الشراع والعاصفة" لحنا مينة وسواها، وتهيمن في الثانية مقاطع الوصف والمونولوغات الداخلية والتذكر والاستشراف، ومن هذه الروايات "حديقة الرمل" لغازي حسين العلي الذي يعيش بطله حالة كابوسية قاسية، فيقوم الصراع النفسي بين الراوي وبطل روايته، ويحاول كلّ منهما أن ينال من الآخر، ولكن ذلك الصراع الذي طغى على بنية الرواية لا يستمرّ غير أيام قليلة هي الزمن الذي تجري فيه أحداث الرواية.‏

ب ـ الزمن الذي كتب فيه الروائي الأحداث، وقد يكون هذا الزمن متطابقاً مع الزمن السابق إذا كان الروائي قد اختار حدثاً يجري في عصره، كما فعل محمد حسين هيكل في رواية "زينب"، فالأحداث تجري في زمن قريب من زمن الكتابة، وقد يختلف الزمنان، ولاسيما في الروايات التاريخية، فنجيب محفوظ مثلاً اختار بعض موضوعاته من العصور الفرعونية، واختار جوجري زيدان موضوعاته من التاريخ الإسلامي البعيد... وهذا يعني أنّ زمن الكتابة يحمل معه تقاناته وثقافته وملامحه، فالروايات التي كتبها زيدان في أوائل القرن العشرين تحمل في بذورها بصمات أوائل هذا القرن، على نقيض الروايات التاريخية التي يكتبها روائيون في نهايات القرن العشرين أو في مطلع القرن الحالي، ولا يستطيع أيَّ روائي أن يتخلّص من أساليب عصره وثقافته ومعطياته "ولحظة الكتابة مهمة من ناحية أنّ المؤلف يريد أن يقلّل من إبراز زمن المغامرة بالنسبة إلى عصره. إنّ راسين بوضعه شخصيات أسطورية وتاريخية على المسرح يعالج مشاكل زمنه قبل كلّ شيء. والتقنية الروائية ذاتها لا يمكن فصلها عن زمن الكتابة، لأنّ الكاتب حتى في حالة استعادته طرق وأساليب عصره أو رفضها، فإنّه يبقى خاضعاً لـه ا"(15).‏

جـ ـ زمن القراءة، وهو زمن هامّ لاتصاله بثقافة القارئ ومنهجه وأدواته ومصطلحاته ومعارفه وآفاقه، وهو زمن متجدّد بالضرورة لتجدّد العصر والثقافة، وقارئ الرواية في القرن التاسع عشر غير قارئ الرواية في القرن العشرين، وهكذا، ولذلك تتبدّل فحوى الرواية ومعناها، وقد تصبح شيئاً آخر بانفتاحها، ففي العمل الأدبي معنى يموت، ومعنى يولد مع زمن القراءة الجديد، و"إنّ الانفصال بين تجربة القراءة وتجربة الكتابة يزداد اتساعاً بتطور معنى الكلمات وبتغيّر طرق الحياة والفكر من عصر إلى آخر"(16).‏

2 ـ رواية الأحداث الاجتماعية: هي رواية الأحداث والتحولات الاجتماعية في سورية، وهي المهيمنة على نسيج الرواية بدءاً من العادات والتقاليد إلى قضايا المرأة المختلفة، وأهمها الحبّ والزواج والإنجاب، إلى قضايا الصراع الطبقي والفقر والجوع والتشرد وسوى ذلك، فقد حاول حبيب كحالة في روايته "قصة خاطئة" أن يعالج مشكلة اجتماعية تعود إلى العادات والتقاليد، فالأسرة تستقبل ولادة البنت بوجوم ظاهر، وكأنَّ لعنة حلّت عليها، فـ"البنت مصيبة على نفسها، وعلى أسرتها معاً. فهي إذا لم تتزوج حمل الأهل همّها، وكانت عبئاً عليهم، وإذا تزوجت حملوا همّها وهمَّ زوجها أيضاً، وهي إذا ظلَّت في البيت اعتبرت نفسها سجينة، وإذا خرجت منه تلقفتها ذئاب بشرية منتشرة في كلّ مكان، في حين أنّ الصبي إذا لم يعطف على أهله، فإنّه على الأقلّ يكفيهم خيره وشرّه، إنّه يحمل همّه بنفسه فلا يحمّله لأحد... يحبّ ويعشق فلا يلحق به أو بأسرته أي عار، والناس يغفرون للشاب ما لا يغفرونه للبنت"(17).‏

ويدور موضوع رواية "ثمّ أزهر الحزن" حول هذه القضية، وهي انتظار المولود الذكر، فقد ازدادت أحزان الأسرة بمجيء البنات، وكان الأب يحلم بمجيء علاء الدين، ويخاطب زوجته قائلاً لـه ا: "متى تنجبين لنا علاء يا كوثر!؟"(18).‏

ولكنَّ التحوّل الذي حدث في بنية الرواية الاجتماعية تجلّى حين دخلت المرأة الكتابة، ولاسيّما كوليت خوري وغادة السمّان، فبطلة رواية "أيام معه" تتمرّد على العادات والتقاليد وعلى مؤسسة الزواج وقوانينها، وهي تتمرد على مصير المرأة في هذا الشرق، وتثور على وضعها البائس، فتقول على لسان (ريم غالي): "لا! أنا لم أوجد فقط، لأتعلّم الطهي، ثمَّ أتزوّج، فأنجب أطفالاً ثمَّ أموت! إذا كانت هذه هي القاعدة في بلدي فسأشذّ أنا عنها"(19)، وهي لا تتوقف عند هذا الحدّ، إنّما تحاول أن تخترق المألوف وتتحدى عالم الذكورة، فترافق زياداً الرجل الغريب في شوارع دمشق، وتتوقف أمام مقهى من مقاهي الرجال، وتحاول أن تدخل مع هذا الرجل الغريب إلى هذا المقهى(20)، ولا يسلم عالم الذكورة من حملة بطلة غادة السمان "ليلى" في روايتها "ليلة المليار" وإنّما هي تضع صنف الرجال في سلّة واحدة، الفقير والغني، والعالم والجاهل، والطليعي والسلفي، فهم شرقيون أنانيون، ولذلك هم متّفقون على أن جسد المرأة وليمة لشهواتهم، ولذلك هي تواجههم بسلاحهم: "ما أقسى عالم الرجال على اختلاف أفكارهم وأهوائهم ومشاربهم: إنّهم يتفقون على شيء واحد: الاحتقار الضمني للمرأة. البروليتاريا وجدت من يدافع عنها، أما المرأة فقد وجدت من يوظّف عذابها للدفاع عن ذكور البروليتاريا حتى إذا ما نجحت الثورة، قطفها الرجل وأعيدت المرأة إلى صناديقها، حتى تثوير المرأة خدعة. كلّ شيء خدعة، والحلّ البسيط هو في أن أعمل كرجل، وأحبّ كما يحبّ الرجال.. والرجل لا يحبّ المرأة إلا في أوقات فراغه، وخارج فترات بناء مستقبله، وأنا كذلك"(21).‏

3 ـ رواية الرحلة: هي رواية المشاهدات الواقعية، وتنتمي إلى كتب الرحلة في التراث العربي، كرحلة ابن بطوطة، كما تنتمي إلى جنس الرواية وفنيتها، ومن ذلك في العصر الحديث كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة رافع الطهطاوي، و"الواسطة في معرفة مالطة" و"كشف المخبّا عن فنون أوروبا" لأحمد فارس الشدياق، وكان فرنسيس المراش أوّل من سجَّل رحلته إلى باريس من السوريين في كتابه "رحلة إلى باريس" الصادر في بيروت سنة 1867م، ثم سارت رواية الرحلة في منعطف جديد حين اختار الروائي بطلاً لرحلته الروائية بعد أن كان الروائي هو بطل مشاهداته، وقد تحقّق ذلك في الرواية السورية أوّل مرة مع رواية "قدر يلهو" 1939 لشكيب الجابري، فاختار علاء بطلاً ليلتقي ـ وهو طالب في ألمانيا ـ إيلزا الفتاة الأوروبية المتحررة التي تعيش حياة قاسية نتيجة لتفكك الأسرة، فتصبح نزيلة الحدائق العامة، ثمّ تعيش معه في منزله من دون عقد زواج، ثم يعود علاء إلى بلاده، فتصله رسالة من إيلزا تنبئه بأنها حامل منه، وأنها ستلد لـه طفلاً مسلماً، لتصبح بعد ما يزيد على عقد من السنوات راقصة تزور حلب، ويقع توفيق صديق علاء في حبّها، فلا يستطيع الزواج منها لتحكّم العادات والتقاليد(22)، وهذا ما يحدث لسامي بطل رواية "الظمأ والينبوع" الطالب الحلبي الذي يدرس الهندسة في ألمانيا، فيتعرّض لحرية المرأة المتزوجة التي تستقبل صديق زوجها في أثناء غيابه في منزله، ومع أن هيلغا قد رحبت بسامي ترحيباً حاراً فإنه ظلّ يفكر تفكيراً شرقياً، ولذلك انتابته الهواجس والشكوك والتداعيات ليقول في ذات نفسه: "وفكّرت ما الحال إذا دخل زوجها ليجدني أجالس زوجته على مائدة الطعام، محتسياً وإياها أقداح الشراب؟ تلك كبيرة خليق بها تحت سماء الشرق، أن تثير الشكوك وتعكّر أصفى حياة"(23).‏

رواية الرحلة هي رواية الموقف من الآخر القوي، ولذلك كانت أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين هي المركز الذي يتجه إليه صاحب الرحلة أو بطله، وقد وصف الطهطاوي باريس ومعالمها وعلومها وحضارتها في "تلخيص باريز" ودعا إلى الاستفادة منها، ولكنّه حذّر من بعض العادات والتقاليد التي تتناقض مع مبادئ الشرقي أو معتقداته، وهذا ما فعله الشدياق في كتابيه وفرنسيس مراش في "رحلة إلى باريس"، وإذا كانت المواقف من الحضارة الأوروبية قد اختلفت بين هذا المفكر أو ذاك فإنَّ الروائيين قد شاركوا أيضاً في ذلك، فشكيب الجابري يكلف إيلزا لتقوم عنه خطيباً وواعظاً لترشد علاء إلى ما يجب على العرب أن يأخذوه من الغرب، فتقول: "لِمَ تأخذون عنا الرقص، ولا تأخذون الوطنية الحقة، لم تأخذون عنّا هذه البنايات التجارية المشوهة، ولا تأخذون عنا الجامعات، تنيرون بها أذهان ناشئتكم، وترسلون منها على العالم شعاع مدنية قومية تخلقونها من تراث ماضيكم المجيد، وحاضركم الناشئ، لعلكم تسدون إلى العالم خيراً خالصاً، لا كذلك الخليط من الخير والشر الذي يقدمه الغرب باسم المدينة الحديثة"(24).‏

4 ـ رواية السيرة الذاتية: هي الرواية المهيمنة على الجنس الروائي في سورية، فالروائي يتحدّث غالباً عن تجربة واقعية حدثت معه، ولذلك هي تتلاقى مع القصيدة الغنائية الذاتية في غير منحى واتجاه، وتتداخل مع رواية الأحداث الاجتماعية تداخلاً كبيراً حين يتقنَّع الروائي أو الروائية بقناع شخصية، لتُبعد عنها شيئاً من مغبة السؤال، فريم غالي في "أيام معه" ربّما لخصت للقراء تجربة كوليت خوري، وتلاقت معها في غير صفة، فهما ذاتا منبت اجتماعي واحد، وكذا شأن بعض بطلات غادة السمان وهيفاء بيطار وسواهنَّ من الروائيات السوريات، ولذلك كانت رواية السيرة الذاتية مباشرة ولا مباشرة، ففي الأولى يتحدّث الروائي عن تجربته بوساطة ضمير مفرد المتكلّم، فيكون الراوي قناعاً شفَّافاً جداً، كما هي الحال في القصيدة الغنائية المباشرة، ومن ذلك ـ مثلاً ـ "الاعترافات" لجان ـ جاك روسو، و"الأيَّام" لطه حسين، و"حياتي" لأحمد أمين، و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم، و"سبعون" لميخائيل نعيمة، وفي الثانية يتحدّث الروائي عن تجربته بوساطة شخصية يتخذها للتعبير عن هذه التجربة وعن مواقفه من الحياة بأشكالها السياسية والحضارية والاجتماعية، ويندرج تحت هذا النوع كثير من روايات الأحداث الاجتماعية كما ذكرنا من قبل، كما يندرج تحته بعض روايات الرحلة أيضاً.‏

ومع ذلك فإنّ المجتمع العربي في سورية ما زال ضاغطاً بقوانينه أو بعاداته وتقاليده على الروائي، فلا يستطيع الروائي أن يخرج على سلطة هذا المجتمع إلاَّ بخروقات طفيفة، فثمة رقابة اجتماعية وسياسية وأخلاقية ودينية تواجه هذا الروائي وتحاول قمعه، ولذلك هي رواية مسبوكة بشكل جيّد، وهي غير واقعية كما يقتضي الأمر في هذا النوع الروائي، وهي مسيّرة حسب توجيهات القارئ الضمني وسلطته، ومغربلة كما تريدها السلطات المختلفة، ولذلك يغيب الوجه الحقيقي للبطل والشخوص، أو هو يظهر بعد زخرفات " Retouches" وإصلاحات لتتناسب وتوجيهات الرقيب والممنوعات المختلفة، ولذلك لا يظهر الوجه السلبي للبطل، هذا ما يبحث عنه القارئ الذي يتشوّق لمعرفة الخبايا، ولذلك أقبل هذا القارئ على رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري التي أمّنت لمؤلفها شهرة واسعة.‏

5 ـ رواية الأفكار: هي الرواية التي تقوم على أطروحة سياسية محدّدة، كرواية "دعوة الحقّ" 1865 لفرنسيس فتح الله المرّاش التي تطرح أهمَّ فكرة في المرحلة التنويرية، وهي الدعوة إلى خلافة إسلامية يكون الخليفة فيها عربيَّاً، وقد تأثر فيها المراش بمبادئ الثورة الفرنسية، فثار ضدّ العبودية والاستبداد، ودعا إلى ثورة العقل والحضارة، وهي مؤلفة من ثمانية فصول تنتهي في الفصل الأخير "اليقظة" بالتبشير بعالم جديد يطلّ على الشهباء وسورية.‏

والرواية في سورية هي رواية الأفكار الثورية والسياسية بدءاً من روايات حنا مينة المتتالية إلى سواه من الروائيين السوريين، حتّى إنّ صفحات الرواية تحوّلت في أحيان كثيرة إلى دعوات للنضال الوطني والسياسي والاجتماعي، ونالت قضية الحرية السياسية نصيباً كبيراً من هذه الصفحات، ومن ذلك مثلاً روايات خيري الذهبي وعبد الإله الرحيل وباسم بعدو وسواهم.‏

وثمة أنواع أخرى من الروايات، ولكنَّها ذات حظّ قليل من اهتمام الروائيين، السوريين، كالرواية البوليسية مثلاً أو الرواية العجائبية والغرائبية التي تتناول أحداثاً أو صفات خيالية لا يقبلها العقل، على نقيض رواية الحدث التي هيمنت على الجنس الروائي في سورية أو رواية المكان، وتظلّ رواية الشخصية (تيار الوعي) أقلّ حضوراً من سواها، ومنها رواية "حديقة الرمل" التي يعالج فيها الراوي صلته بشخصياته، ولاسيّما البطل الذي اختاره لروايته، فكانت صفحات الرواية مسرحاً للصراع الداخلي بين الراوي جهاد نصّار الصحفي والمؤلف وبطل روايته جواد عبد الرحيم الشخصية المتخيّلة التي تلاحق الراوي العليم المستبدّ لتنال منه، فلم تترك لـه مجالاً لالتقاط أنفاسه، فيُصاب بالهلع والمرض الجسدي والنفسي، وهذا ما أوقع سلطته بالخلل، وقد اعترف بذلك لطبيبه النفسي عماد سيف الدين حين سأله عن علاقاته بشخوص قصصه ومهنته:‏

ـ (ليست جيدة دائماً والأمر يتعلّق بالطرف الآخر ومدى استعداده للطاعة التي تتطلّبها طبيعة عملي).‏

ـ (هذا أمر جيّد).‏

ـ (وأنا أعتقد ذلك ولكن ليس ثمة حلّ.. أنا أصوّر الواقع من خلال نوازع الحال التي أنا فيها وبالشكل الذي تفرضه عليّ هذه الحال).‏

ـ (هذه خيانة لرسالتك).‏

ـ (الخيانة مسألة نسبية أيضاً).‏

ـ (كيف)؟‏

ـ (الخائن من يبيع الوطن أو يعمل على تحطيمه.. ثم أنّني أخون الحال وليس أصحابها.. بمعنى أنّني أجرُّ الحال إلى خندقي لأخلق منها صورة من صوري)..‏

ـ (انتهت الجلسة) (25).‏

وثمة تصنيف فنيّ آخر للرواية، وهو رواية الصوت المنفرد ورواية الأصوات المتعددة، ففي الأولى يبرز الراوي المفرد العليم، فهو مصدر المعلومات ومنتج للسرد في الوقت ذاته، وهو يقدّم شخصية منجزة تامة الملامح منذ الفصول الأولى، وغالباً ما تكون أهداف هذه الشخصية متطابقة مع أهداف الكاتب، وأيّ حديث عن استقلال العمل الفنيّ في هذا النوع من الروايات هو ضرب من المبالغة والادعاء، فهي روايات تقليدية تقدّم الحدث على سواه، وغالباً ما تكون الشخصيات فيه باهتة،وهي وسيلة لا غاية، ونجاح أي رواية من هذه الروايات يعود إلى العزف على وتر المسكوت عنه، سواء أكان هذا المسكوت عنه سياسياً أم دينيّاً أم جنسيّاً، مما يُرضي القارئ العادي المكبوت الذي يبحث عن التسلية أو التنفيس، ولكنَّ ذلك لا يكتفي به قارئ يبحث عن المتعة الفنية.‏

إن الرواية العربية في سورية باستثناءات قليلة ما تزال تعمل على الموضوع أكثر مما تعمل على النسيج الفني، فالرواية تشبه قصيدة غنائية لا نسمع فيها سوى صوت الشاعر، ولذلك نحكم على الطرف الآخر من خلال هذا الصوت، وهي مجموعة إحساسات أو اعترافات صادرة من جهة واحدة، فنحن نقرأ في هذه الرواية صوت الإنسان الملاحق، فنتعاطف معه، وهو يقدّم صورة عن السلطة التي تلاحقه، ويذهب الراوي في الوصف الطولاني المتلاحق للأحداث، فتمتدّ الرواية أفقيّاً من دون أن تتسلّل إلى الأعماق، وتنتهي صفحات الرواية من دون صراعات حقيقية أو صراعات في نسيج العمل الفني، ومن ذلك مثلاً كثير من الروايات التي تكتبها الأنثى، فهي ذات صوت مفرد وحيد يمثّل غضبة ملحمية عارمة على عالم الذكورة، وهي روايات موضوع قبل أيّ شيء آخر، وهي سرد متتابع لأحداث يومية متتالية، ولذلك تلتقي هذه الأعمال بالمذكرات اليومية التي هي أشبه بسيرة ذاتية، ولذلك سنتوقف عند رواية واحدة للتمثيل في هذا المجال.‏

تدعي الأديبة هيفاء بيطار في روايتها "امرأة من طابقين" في الصفحة الخامسة بأن شخصيات هذه الرواية من الخيال، ولكنَّ الرواية تتقاطع بين السيرة الذاتية وكتابة المذكرات لسيدة تدعى نازك، وهي الشخصية المحورية التي تدور الأحداث حولها وداخلها، وتكشف هذه السيدة من خلال السرد عن ذلك كلّه، فنازك تسلّم كاتب البلاد الشهير فصلاً من روايتها ليقرأه ويُبدي رأيه في كتابتها، وخصوصاً أنّها كاتبة مبتدئة، وهي تعترف بأن هذا الفصل منتزع من حياتها: "كان أحد أحبّ الفصول إلى قلبي برفقته، تُرى كيف سيقرؤه، وهل سيعرف أنني أتحدّث عن نفسي متهرّبة من صيغة الأنا"(26)، وهذا ما يتوضّح بصراحة في حوار يدور بين نازك والناشر الكبير حول مخطوط روايتها:‏

قلتُ لـه : أنا متلهّفة لأسمع رأيك، هل أعجبتك الرواية!؟‏

ـ طبعاً، أتعرفين بعد أن انتهيت من قراءتها، فكرت أنك تبدين ككاتبة متمرّسة وصاحبة خبرة، جرأتك رائعة، فيها تحدّ وإيمان عميق بواجب قول الحقيقة، كأنّه غاية بحدّ ذاته، كأنك تملكين ضعفاً تجاه الحقيقة، وميلاً للاعتراف كي تتخلّصي من عبء الحوادث التي مرّت معك.‏

ـ أجل الكتابة تقرّبني من كلّ الحوادث التي مرّت معي، وتخلّصني من وجعها في آن.‏

ـ لكنّ روايتك أشبه بسيرة ذاتية، ولازلت في عمر مبكّر على كتابة السيرة الذاتية.‏

ـ إنها تجربتي مع الحياة حتى هذه اللحظة(27).‏

ـ تتركّز أحداث هذه الرواية حول امرأة مطلّقة بكامل أنوثتها في العقد الرابع من عمرها (نازك) تبحث في عالمنا الموبوء عن مكان للطهارة والحرية والحبّ والصدق في العلاقات الجنسية والإنسانية، فتُصاب بنكسات متتالية، فتنصرف إلى الكتابة، لتكتشف أنَّ عالم المثقفين صورة مكثّفة عن القذارة والمصالح الشخصية، فعليها ـ إذا رغبت في الشهرة ـ أن تقايض بجسدها، فالشهرة يصنعها الكتَّاب القدامى والناشرون الكبار، فتقع في صراع عنيف بين القيم والتحلّل منها في عالم ذكوري لا يُقيم وزناً للأنثى والحريّات، وترفض أن تكون سلعة معلّبة، لتخرج في نهاية الرواية متلائمة بين عالمي المرأة: الطابق العلوي الذي يمثّل الفكر والمبادئ والتحرر والصدق، والعالم السفلي الذي يشتمل على الرغبات والشهوات الجنسية، ولذلك تشنّ حملتها على عالم الذكورة من خلال هذين العالمين، وتستخدم في ذلك جمالها للانتقام من الذكورة الزائفة، فهي أولاً تؤمن بأنّ كتاباتها أهمّ من كتابات كاتب البلاد الشهير، وهي التي ثارت على زوج خائن يخونها مع امرأة فرنسية، فترفض أن تخضع لمصيرها بالصبر الشرقي الأنثوي، لأن الصبر من صفات الحمير(28)، فتُشهر حربها على المؤسسات الشرقية بعد أن أخفقت في أول حبّ استلب فؤادها مع طالب الفلسفة الذي اختار طريق السيد المسيح واللاهوت غير مكترث برسائلها وتوسّلاتها، فقدمت جسدها لشقيق زميلتها، وهو أصغر منها، ودعته لخرق عفتها الزائفة للانتقام من طالب الفلسفة اللاهوتي الذي يتعبد في أحد أديرة اليونان(29)، ثمَّ هي أخفقت مرّة أخرى بالزواج من صفوان المختلف دينيّاً، لأن المجتمع يمانع أمثال هذا الزواج، ولذلك كان زواجها من ماهر تقليديّاً، وهو زواج رتّبه الأهل للطرفين معاً، فزواج ماهر منها كزواجها منه كان تحت ضغط الأهل الذين مانعوا أن يتزوج ابنهم الطبيب المقيم في فرنسا من امرأة فرنسية "إيزابيل"، فلما ضبطته معها على سريرهما وضعها الزوج أمام الحقيقة: هو على علاقة مع إيزابيل، وهو يعرف في الوقت نفسه بعلاقتها مع صفوان، وهما متساويان في الخيانة، ولذلك انفجرت في وجهه تصفه بالكلب الخائن المنحط الحقير العاهر وتصف عشيقته بالقحبة(30)، ولذلك خرجت من هذه التجربة القاسية بانهيار عصبي حاد، وحصلت على الطلاق بعد سبع سنوات من الهجر، لتبدأ رحلتها مع الكتابة والكتّاب، وتحاول أن تنتقم منهم جسدياً، وتعترف بأنَّها كانت تحاول إغواءهم للإيقاع بهم، فتنصب فخاخها لكاتب البلاد الشهير العجوز(31).‏

تمارس الكاتبة في هذه السردية فنَّ الحكي أكثر مما تمارس فنَّ الرواية، ففي الرواية خبرة بالعالم الباطني، وصياغة الحكاية صياغة فنية، وليس في هذا العمل سوى اعترافات لامرأة تدعى نازك.. لكنَّ التشويق الفني لا حضور لـه ، ولو حذفنا المشاهد الجنسية الكثيرة في هذا العمل لما وجد القارئ العادي متعة في قراءته، وتمثّل هذه الرواية أخيراً رواية الصوت المفرد.‏

أما رواية الأصوات المتعددة فهي الرواية الدرامية، وهي شبيهة بالقصيدة الطويلة الدرامية، وإذا كانت الرواية ذات الصوت المفرد قد نشأت في ظلّ السلطة الواحدة من خلال صوت الراوي الخبير الذي يهيمن بصوته على عالم الرواية فإن رواية الأصوات المتعدّدة هي رواية المعرفة المتعددة التي تطرح الرأي والرأي الآخر، وتوزّع الأدوار والأصوات ضمن حوارية سردية مختلفة بإحلال لغات الشخوص محلّ لغة الراوي العليم الواحدة، ولذلك هي تتصف بانتفاء البطولة الفردية، وتفسح المجال للبطولة الجماعية بانفتاحها على لغات مختلفة ومشاهد متعددة وثقافات متباينة، فالشخصيات هي التي تتكلّم، وتنتقد الروائي الكاتب والراوي المتكلّم، وهي شخصيات متحرّرة من سلطتيهما، وليست أدوات تنفيذية مسخّرة للخدمة المجانية، وهكذا تتوزّع الأدوار بين الشخصيات، وتنتقل بنية الرواية من البنية البسيطة التقليدية إلى البنية المركبة التي تتداخل فيها الشخصيات والصراعات والأيديولوجيات، وهذا ما يتلمّسه القارئ في رواية "ميرامار" 1967 لنجيب محفوظ التي تعدّ نموذجاً لتعدّد الرواة وتعدّد وجهات النظر، ففيها أربع شخصيات تتسلّم دفة الرواية، وهي شخصية عامر وجدي الذي بدأت الرواية وانتهت معه في الفصلين الأول والخامس، وشخصية حسني علام الشاب المستهتر الذي يقوم برواية الفصل الثاني، وشخصية منصور باهي الذي يقوم برواية الفصل الثالث، ثمَّ شخصية سرحان البحيري الذي يقوم برواية الفصل الرابع، وهي شخصيات مختلفة سياسياً وأيديولوجياً وطبقيّاً وثقافة، ولكلّ منها وجهة نظر وعلاقات وماضٍ مختلف.. الخ (32).‏

في تاريخ الرواية السورية صفحات قليلة من رواية الأصوات المتعددة، كرواية "حسيبة" لخيري الذهبي، وفيها أصوات خليل وكفى ورغيد وزينب ومريم، ورواية "ليلة المليار" لغادة السمان، وفيها أصوات دنيا ونديم وأمير، ورواية "وجهان لعنقاء واحدة" لعبد الكريم ناصيف، وفيها أصوات ديمة وهمام وناجية أمّ ديمة.‏

وبعد، فإن تصنيف الروايات اجتماعية ـ تاريخية ـ تراسلية ـ عجائبية ـ واقعية ـ رومانسية تصنيف درسي يراد منه تسهيل عمليات القراءة، ولكنَّ في الرواية التاريخية شيئاً غير قليل من الأحداث الاجتماعية، كما أنّ في الرواية الاجتماعية شيئاً غير قليل من التاريخ، وهكذا، وليس هناك رواية رومانسية أو واقعية خالصة، ولذلك هناك نصّ روائي يجذب القرّاء، وآخر ينفّرهم منه.‏

الهوامش:‏

(1) ـ انظر: أرسطو طاليس: فنّ الشعر، تر. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، د.ت ص ص 7 ـ 9.‏

(2) ـ فاليط: برنار: النّص الروائي ـ مناهج وتقنيات، تر. رشيد بنحدّو، سليكي إخوان، ط1، 1999، ص 29.‏

(3) ـ كروتشه، بندتو: المجمل في فلسفة الفن، تر. سامي الدروبي، دار الفكر العربي، القاهرة ط 1، 1947، ص 47 ـ 48.‏

(4) ـ انظر: بارت، رولان: درس السيميولوجيا، تر. عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، 1989، ص 48.‏

(5) ـ انظر: الموسى، د. خليل: بنية القصيدة العربية المعاصرة المتكاملة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص 142، وأماكن أخرى كثيرة.‏

(6) ـ انظر: فانست، لابي. سي: نظرية الأنواع الأدبية، تر. د. حسن عون، منشأة المعارف بالإسكندرية، ط 2، 1982، ص 430.‏

(7) ـ وادي، طه: الرواية السياسية، دار النشر للجامعات المصرية، ط 1، 1996، ص 57.‏

(8) ـ انظر: مادة "الرواية" في المعاجم التالية:‏

أ ـ المعجم الأدبي، د. جبور عبد النور، دار العلم للملايين، بيروت، 1979.‏

ب ـ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، بيروت 1979.‏

جـ ـ من مصطلحات معجم النقد الأدبي، د. خليل الموسى ود. إبراهيم كايد محمود، دمشق، 2000م.‏

(9) ـ نقلاً عن: دراج، د. فيصل: الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط 1، 2004، ص 132.‏

(10) ـ انظر: الموسى، د. خليل: آفاق الرواية، مطبعة اليازجي، دمشق، ط1، 2002، ص 111.‏

(11) ـ مينة، حنا: المصابيح الزرق، دار الفكر الجديد، بيروت، 1954م، ص 137 ـ 138.‏

(12) ـ ينظر: شقير، جميل سلوم: التجذيف في الوحل، دار علاء الدين، دمشق ط 1، 2004، ص 71 ـ 77 و189 ـ 193.‏

(13) ـ ينظر: الرويلي، محمد رشيد: سورين، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2005، ص 104 ـ 105 و114 ـ 116.... الخ.‏

(14) ـ بورنوف، رولان وأونيليه، ريال: عالم الرواية، تر. نهاد التكرلي: دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991، ص 121.‏

(15) ـ المرجع السابق، ص 126.‏

(16) ـ المرجع السابق، ص 130.‏

(17) ـ كحالة، حبيب: قصة خاطئة، المطبعة العمومية، دمشق 1959، ص ص 12 ـ 13.‏

(18) ـ السباعي، فاضل: ثمَّ أزهر الحزن، إشبيلية للدراسات والنشر، دمشق، ط 2، 1990، ص 12.‏

(19) ـ خوري، كوليت، أيَّام معه، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 1967، ص 22.‏

(20) ـ المصدر نفسه، ص ص 132 ـ 133.‏

(21) ـ السمان، غادة: ليلة المليار، منشورات غادة السمان، بيروت، ط 2، 1991، ص ص 341 ـ 342.‏

(22) ـ الجابري، شكيب: قدر يلهو، المطبعة الهاشمية بدمشق، ط 2، 1939، ص ص 204 ـ 205.‏

(23) ـ السباعي، فاضل: الظمأ والينبوع، دار الآداب، بيروت، ط2، 1964، ص 55.‏

(24) ـ قدر يلهو، ص 149.‏

(25) ـ العلي، غازي حسين: حديقة الرمل، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ط1، 2005، ص 97.‏

(26) ـ بيطار، هيفاء: امرأة من طابقين، مكتبة بالميرا، اللاذقية، ط2، د. ت، ص 69.‏

(27) ـ المصدر نفسه، ص 160.‏

(28) ـ المصدر نفسه، ص 111.‏

(29) ـ المصدر نفسه، ص 35 ـ 36.‏

(30) ـ المصدر نفسه، ص 98 و131.‏

(31) ـ المصدر نفسه، ص 20 ـ 21 و45 ـ 58.‏

(32) ـ للتوسع ينظر دراستنا لـه ذه الرواية: آفاق الرواية، ص ص 113 ـ 130.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://doroob.own0.com
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى :: تعاليق

للنشر
بنية الرواية التاريخية في سورية
مُساهمة السبت مارس 26, 2011 10:15 pm من طرف للنشر
الجزء الثالث

بنية الرواية التاريخية في سورية

ـ 1 ـ‏

إنّ صلة التاريخي بالفنّي صلة رحمية، ولا سيما الفنون التي تتصل بالسرد، كالملحمة والرواية، فللملاحم أصول تاريخية، سواء أكانت نسبة هذه الأصول كبيرة أم صغيرة، ولكنّ تعامل الفنان مع الأصل التاريخي مختلف كلّ الاختلاف عن تعامل المؤرخ، فذاك ينتقي مادته من التاريخ، ويتعامل معها بوصفها مادة ليّنةًَ طرية يعيد إنتاجها ، ليصنع منها فناً مختلفاًَ عن مرجعه، في حين أن المؤرخ يحافظ عليها كما هي، صحيحُ أنه يرتبها ويحلّلها، ولكنّ الحقيقة التاريخية ينبغي أن تظلّ رائده ودليله، وليس من عمل الفنان أن يبحث عن هذه الحقيقة الفنية، وأن يكون قادراً على صناعتها، فالفن ابن المخيلة، والتاريخي ابن الواقع، ومع ذلك فإن صلة الفنّي بالتاريخي رحمية، لأنّ الفن ابن التاريخ أيضاً، والتاريخ هو الذي يقدّم للفنان المادة والموضوع ليصنع منهما عمله الخالد، وقد تنبّه أرسطو في كتابه ((فن الشعر)) على عمل الفنان، فهو انتقائي، وبخاصة في الملحمة، ففي وحدة الفعل رأى أن تدور حول فعل واحد تامّ لـه بداية ووسط نهاية، وينبغي في التأليفات ألا تكون مشابهة للقصص التاريخية التي لا يراعى فيها فعل واحد، بل زمان واحد، ولهذا السبب عدّ أرسطو الشاعر هوميروس سيّد الشعراء، لأنه لم يعالج في ((الإلياذة)) حرب طروادة كلها، مع أن لـه ا بداية ونهاية، فهي تكون مسرفة في الطول، ولذلك تناول جزءاً محدّداً من تلك الحرب ((1))، وهذا ما أكده ـ فيما بعد ـ الناقد الشكلاني الروسي فكتور شكلوفسكي ‘viktor chklovski’ (1893 ـ 1984)، الذي بيّن صلة الهامشي بالفنّ: ((على أصحاب النظريات منّا أن يكونوا على علم بقوانين الهامشي في الفنّ. والحقّ أن الهامشي وضع غير جمالي مرتبط بالفنّ ارتباطاً غير سببي، غير أنّ الفنّ لن يعيش دون مادة خام تأتيه من ذلك الهامشي))((2)).‏

يلجأ الروائي إلى الهامشيّ لإقامة صلة بين الأدبي واللا أدبي، فالثاني ضروري للأول، كضرورة الخيال الأولي للخيال الثانوي في الشكل العضوي عند كولردج((3))، لأنّ البناء الأدبي كالبناء المعماري أو الرسم أو النحت أو الموسيقا أو أيّ بناء آخر بحاجة إلى مواد أولية ليصنع منها بناءه، والتاريخيّ مكوّن روائي قادر على استنطاق التاريخ وتشخيصه من جهة، وتوسيع أفق الكتابة من جهة أخرى، ثم إنّ الالتجاء إلى التاريخي في كتابة الرواية عملية تفاعل بين ما قبل النص (المرجع) والنص، وبين الواقعي والمتخيل، أو بين الماضي بصفته بحثاً وتعريفاً في جماليات عاشت في ذاكرة الجماعة وفي وجدانها والراهن في آخر ما أنتج من تقانات روائية، ولذلك ليست هذه الصلة بين الواقعي والفني مجانية، وإنّما هي ذات حضور متحقق وفاعل، وتكون العلاقة جدلية بالصدق الواقعي والفني لقول ما لم يقلْ: ((ولذلك، لا ترتبط الرواية بالتاريخ لتعيد التعبير عمّا قاله التاريخ ((بلغة أخرى))، بل قد ترتبط الرواية بالتاريخ للتعبير عما لا يقوله التاريخ))((4))، وهذا ما عبّر عنه نجيب محفوظ حين سأله رجاء النقاش عن العلاقة بين التاريخ والرواية فأجاب: ((في رأيي أنّ العلاقة وطيدة، فالرواية عبارة عن استعراض للحياة اليومية بكلّ مشاكلها وقضاياها. وأشخاصها، هذا جزء من التاريخ لم يكتبه المؤرخون، ثمّ إنّ التاريخ عبارة عن أحداث وأشخاص وتفسير ورؤية، والرواية كذلك))((5)).‏

وقد تبرز هنا مشكلة من اجتماع الوظيفتين الأدبية والمرجعية في الرواية التاريخية، ولكنّ الرواية في هذه الحالة نصٌ جامع لخطابين خطاب جمالي مهيمن، لأننا في حدود الفنّ الروائي ولذلك تقدّم فيه الوظيفة الأدبية بقوة وتبرز على حساب الخطاب التاريخي الغريب عن حدوده ومركزه، وتقدم من خلال هذا الخطاب الأخير الوظيفة المرجعية، فالتاريخ خطاب معرفي نفعي، وهو رواية ما كان، والرواية خطاب جمالي، وهي تاريخ ما كان يمكن أن يكون، كما لا يعني ما تقدم أن الخطابين مفصولان، فهما نصّ جامع، والوظيفة الأدبية مهيمنة، وهذا يعني أنّها تتضمن في حركتها الوظيفة المرجعية، وتسخرها في خدمتها، ولذلك لا يبقى التاريخ تاريخاً في الرواية الفنيّة، وإنما يغدو مكوناً في نسيجها، وهكذا يتجاذب الرواية التاريخية هاجسان ((أحدهما الأمانة التاريخية التي تقضي عليها بألا تجافي ما تواضعت عليه المصادر التاريخية من قيام الدول وسقوطها واندلاع الحروب والوقائع المأثورة، والآخر مقتضيات الفنّ الروائي))((6))، ومقتضيات الفنّ الروائي مختلفة بين رواية وأخرى حسب طبيعتها ودرجة فنيتها وخبرة الروائي واهتمامه بالعنصر المهيمن، سواء أكان الحدث أم الشخصية أم الفضاء أم سوى ذلك، ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أنّ الرواية التاريخية في مرحلة التنوير غلبت الحدث التاريخي على العنصر الفنيّ، وهذا ما سيأتي الحديث عنه.‏

العلاقة إذا جدلية بين التاريخي والفني، فالتاريخي يقدّم للفني مادته، والفنّي يسوّي هذه المادة، ويعيد إنتاجها وصياغتها وفق الضرورة أو الاحتمال، ولذلك بين أرسطو أن عمل المؤرخ غير عمل الشاعر حين ذهب إلى ((أنّ مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلاً، بل رواية ما يمكن أن يقع. والأشياء ممكنة: إمّا بحسب الاحتمال، أو بحسب الضرورة. ذلك أنّ المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر يرويها نثراً (....) وإنما يتميزان من حيث كون أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً، بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع))((7)).‏

هكذا تكون إذاً صلة التاريخي بالفني جدلية مع اختلاف عظيم في الأهداف وطرق الوصول إليها، فالفنان يصل إلى غرضه بوساطة العشق الفني والخبرة في متابعة الجمال واكتشاف أبعاده وبناء عوالم جمالية أخّاذة، في حين يصل الثاني إلى غرضه بوساطة المعرفة، والعقل وخبرته في معرفة الوثائق وقراءتها، وتحليلها، وهكذا تكون الحقيقة متعددة، لأن كلاً من الفنان والمؤرخ يسعى إلى هدف بعيد عن الآخر، ويكون كلّ منهما في مواجهة الآخر في طلب الحقيقة، فهذا يراها بيضاء، وذاك يراها سوداء، وحقيقة الفنّ غير حقيقة التاريخ، لأنّ الكتابة في أيّ منهما مختلفة،فالتاريخي رواية حقيقية والرواية تاريخ متخيّل ويكون التعامل بناء على ذلك مختلفاً، صحيح أنه يتمّ بوساطة الانتخاب المهني، sélection professionnelle ولكن انتخاب الروائي لمادته التاريخية غير انتخاب المؤرخ لـه ا، لأن القصد مختلف، ولأن طريقة المعالجة مختلفة هي الأخرى.‏

ـ 2 ـ‏

نشأت الرواية العربية أولاً في بلاد الشارم، فقد أسرع خليل الخوري‏

(1836 ـ 1907) إلى نشر الروايات المؤلفة والمترجمة في جريدته ((حديقة الأخبار)) التي صدرت في بيروت سنة 1858، وقام عدد كبير من المترجمين بترجمة الروايات عن الفرنسية والإنكليزية والإيطالية، ومن هؤلاء بطرس البستاني الذي ترجم رواية ((روبنسون كروزو)) لديفو سنة 1861 وسمّاها: ((التحفة البستانية في الأسفار الكروزية))، وسليم صعب الذي ترجم رواية ((الكونت دي مونت كريستو)) لـ ((إسكندر دوماس الأب)) ونشرها في بيروت سنة 1866، وترجم نجيب الحداد رواية ((الفرسان الثلاثة)) لـ ((إسكندر دوماس))، ونشرت في القاهرة سنة 1888 بأربعة أجزاء، وأنشئت الشركات والمجلات التي اهتمت بهذا الجنس الأدبي الوليد، ومنها ((الشركة الشهرية)) في بيروت ليوسف الشلفون سنة 1867 ومجلة ((الجنان)) 1870 لبطرس البستاني، ولم يمض وقت قصير حتى بدأ فرنسيس مرّاش الحلبي (1836 ـ 1873) بنشر كتبه الفكرية التي استعان فيها بالسرد لتوصيل المعلومة إلى القارئ، فأصدر في سنة 1861 كتابه ((درّ الصدف في غرائب الصدف))، ثمّ أصدر كتابه ((رحلة في باريس)) سنة 1867، وكان قد أصدر روايته ((غابة الحق)) في سنة 1865، وقد ذهب جابر عصفور إلى أنها الرواية العربية الأولى التي نعرفها في العصر الحديث((8)).‏

وكان للرواية التاريخية موعد مع مجلة " الجنان"، فقد نشر سليم البستاني (1848 ـ 1884) روايته التاريخية الأولى ((زنوبيا)) في أعداد السنة الثانية 1871، ونشر روايته التاريخية الثانية ((بدور)) في أعداد السنة الثالثة 1872.. أما جورجي زيدان (1861 ـ 1914) فهو ـ من دون منازع ـ أبو الرواية التاريخية العربية التي استمدت أصولها من الغرب، وقد ألف ثلاثاً وعشرين رواية بدأها بـ ((المملوك الشارد)) 1891 وختمها بـ ((شجرة الدرّ)) 1914 سنة وفاته، وقد سار على طريقة سليم البستاني في نشر فصول رواياته في مجلته ((الهلال)) التي أصدرها في أواخر سنة 1892، وهكذا ترسخت الرواية التاريخية في الثقافة العربية في العصر الحديث.‏

ـ 3 ـ‏

إنّ بنية الرواية التاريخية في سورية متنوعة، وقد مرّت في مرحلتين: المرحلة التنويرية والمرحلة الفنية.‏

أولاً: المرحلة التنويرية: رواية التاريخ:‏

قامت الحركة التنويرية في عصر النهضة على قدم وساق، وكانت شاملة في الحياة والأدب، وحاول محمد علي باشا إنشاء دولة قوية حقيقية، وكان لـه ولأولاده وأحفاده من بعد أغراض سياسية وعسكرية واجتماعية، ولكنّهم احتضنوا الفكر والأدب. بعامة ونشاط المهاجرين الشوام إلى مصر بخاصة، وكانت هذه الحركة عقلانية خالصة، حتى إن مفهوم التنوير صار مرادفاً لمفهوم العقلانية التي تردّ كل شيء إلى العقل، وأيّ حركة شاملة لا تتخذ العقل مصباحاً لـه ا لا تستطيع أن تحقق ما تسعى إليه من أهداف، وكان المهاجرون من بلاد الشام من أهم التنويريين الذين قدموا حرية التعبير والمساواة والرابطة العربية واحترام العقل، وكان من أعلامهم شبلي شميل ويعقوب صروف وفارس نمر وأديب إسحق وعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون وسواهم، وذهبوا جميعاً إلى أنّ العلم لابدّ من أن يكون الراية الوحيدة التي نرفعها لتعود للأمة أمجادها من جهة، ولمواصلة الحركة التاريخية من جهة أخرى، فكان هؤلاء وسواهم يعملون على غير صعيد في الفكر والصحافة والترجمة والمسرح والأدب((9))، وكانت محاولة التأسيس لجنس أدبي جديد يدعى ((الرواية)) في الثقافة العربية ترجمة وتأليفاً وإنشاء المجلات والشركات لـه ذا الغرض من أهم المحاولات الأدبية في عصر التنوير العربي، كما كان لأدباء بلاد الشام مقيمين ومهاجرين الدور المجلي والفاعل في هذا المجال.‏

أخذ الجنس الروائي يتشكل شيئاً فشيئاً، وبخاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد كانت حركة التنوير العربية على أشدّها في مصر، لتخلصها فعلياً من سلطة الاستبداد العثماني من جهة، واستقطابها لحركة المفكرين والأدباء الشاميين من جهة ثانية، فالتفت، هؤلاء الأدباء إلى التاريخ الإسلامي ليعزّزوا فكرتين متلازمتين: ثراء التراث الإسلامي في تاريخ البشرية، وتفرد الجنس العربي بالبطولات والدفاع عن القيم النبيلة، وقد أرسى جورجي زيدان أصول هذه الرواية في الثقافة العربية.‏

كان على زيدان الرجل المسيحي اللبناني في مجتمع مصري محافظ أن يلجأ إلى الوثائق التاريخية ويبرزها للقارئ في رواياته المختلفة في التاريخ الإسلامي، ولا شكّ في أنّ هدفه كان تنويرياً، فهو فرد يعمل ضمن مؤسسة كبيرة على رأسها رجالات النهضة في مصر، كالشيخ الإمام محمد عبده و قاسم أمين وكثير من رجالات النهضة الشاميين في مصر، ثمّ هو صاحب مؤسسة الهلال، وكان الرجل مؤرخاً قبل أن يكون روائياً لكن الحركة التنويرية كانت شاملة، وكانت تحتاج إلى جهود مكثفة وبخاصة في اجتذاب القارئ العربي، فكان الالتفات إلى الرواية التاريخية وسيلة من وسائل هذه الحركة.‏

كان على زيدان وهو المفكر والمؤرخ أن يقدم رواية صالحة للقراءة، وينبغي أن يضيف إلى المادة التاريخية مادة مشوّقة جاذبة، فكان لابد من موضوعات الحبّ لتكون فخّاً للقارئ الذي كان ينتظر صدور أعداد مجلة الهلال لتكتمل الرواية، وينتظر بعد ذلك أن تصدر في عمل متكامل موحد عن دار الهلال.‏

وبما أن هدف زيدان من رواياته تنويريّ، وكان الرجل مؤرخاً قبل أن يكون روائياً فإن رواياته تدخل ضمن مشروع إحيائي خالص، وغايته منها الالتفات إلى التاريخ العربي قبل المتعة والفنّ والجمال، ورواية التاريخ عند زيدان شبيهة إلى حدّ ما بالعلوم المنظومة، كالطب والتاريخ والنحو، وذلك للترغيب في القراءة وتسهيلها. والاستفادة منها، وليس النظم سوى طعم أو فخّ للقراءة، وكذا شأن روايات زيدان التي ظلت محملة بالمادة التاريخية ومزودة بالوثائق، ولذلك كان التاريخ هو الهدف الأسمى عنده، ومن هنا أقترح أن نطلق على هذه الروايات مصطلح ((رواية التاريخ))، فهو الذي يناسبها في المرحلة التنويرية.‏

إنّ رواية التاريخ لم تخرج فنياً إلا من معطف زيدان، وإن ظلت تكتب حتى منتصف القرن العشرين وبعد ذلك بقليل، وظل زيدان معلماً في هذا النوع من الرواية، فلم يضف المتأخرون جديداً إلى ما قدمه، وظلّت المادة التاريخية هي الأساس، وبقيت المقدمات والهوامش والتعليقات والتعريفات التاريخية جنباً إلى جنب مع المتن الروائي، وظلّ الهدف منها الترغيب في العودة إلى التاريخ العربي وقراءته، وقد تنبّه زيدان على هذا الهدف، وصرّح به في غير مكان في مقدمات رواياته وعلى الصفحات الأخيرة منها، ففي مقدمة روايته ((الحجاج بن يوسف)) سنة 1902 وبعد أن نشر سبع روايات تاريخية وضع تصوّره حول طبيعة الرواية التاريخية التي يكتبها ووظيفتها، فقال: ((قد رأينا بالاختبار أن نشر التاريخ على أسلوب الرواية أفضل وسيلة لترغيب الناس في مطالعته، والاستزادة منه، وخصوصاً لأننا نتوخّى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكماً على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، ومنهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة، فجرّه ذلك إلى التساهل في سرد الحوادث التاريخية بما يضل القراء. وأما نحن فالعمدة هي روايتنا على التاريخ. وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقاً للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، ندمج فيها قصة غرامية، تشوّق للمطالع إلى استتمام قراءتها، فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أيّ كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص، إلاَّ ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير لـه على الحقيقة))، وكتب عن سلسلة روايات تاريخ الإسلام: ((سلسلة من الروايات التاريخية تصوّر مراحل التاريخ الإسلامي منذ ظهور الإسلام.. روعي فيها عنصر التشويق مع التزام الحوادث التاريخية التزاماً دقيقاً من حيث الزمان والمكان والأشخاص مع وصف ما يتخللها من عادات وأخلاق)).((10)).‏

إن بيان زيدان الذي جاء في مقدمة روايته الثامنة ((الحجاج بن يوسف الثقفي)) توضيحي يبين فيه طبيعة الرواية التاريخية التي يكتبها والهدف الذي يسعى إليه من وراء هذا المشروع الطويل الذي التزمه إلى وفاته، وكان هذا البيان على قصره واضحاً ومركزاً ودقيقاً، فطبيعة المشروع الذي يكتبه مختلفة عن طبيعة الرواية التاريخية التي كانت سائدة في الغرب عند ديماس وسكوت، فهما يكتبان الرواية التاريخية من خلال منظور روائي فنّي، وهو يكتب الرواية التاريخية من خلال منظور التاريخ، وإنما هو يسعى إلى كتابه التاريخ بقالب روائي، لأن القارئ في مصر والوطن العربي غير القارئ في الغرب، وقد لجأ زيدان إلى هذه الطريقة في كتابة التاريخ لاستقطاب أكبر عدد من القراء، وهو يجمع بين قراء التاريخ وقراء الرواية، فيحقق الهدف المرجو من الكتابة، وهو الهدف التنويري، وهذا ما سعى إليه رجالات النهضة، وهو تلمس ملامح الشخصية العربية الإسلامية المختلفة عن سواها، ومن هنا كان الهدف الأول عند زيدان هو التاريخ وقراءته، وما إضافته لحكاية الحبّ سوى تشويق للمطالعين، أو هي فخّ للإيقاع بالقارئ العادي أو قارئ الرواية، ولذلك كانت الحكايتان متمازجتين (تاريخية واجتماعية)، فقد ابتدع زيدان طريقة جديدة لتقديم التاريخ مبسّطاً وشائقاً في قالب الرواية، فاختلق قصص الحبّ لجذب انتباه القراء وتشويقهم، وكانت فخاً للقراءة ((11))، أو كما قال محمد يوسف نجم: ((فكان همّة الأول تعليم التاريخ وتشويق القارئ إلى مطالعته، فكان يبقي الحوادث التاريخية على حالها كما هي، ثم يربط أجزاءها المتناثرة بقصةٍ غرامية فيشوّق القارئ بذلك، ويستحضر الحلقات المفقودة التي يربط بها أجزاء القصة المتناثرة))((12))، ولذلك كان ما كتبه جورجي زيدان صفحاتٍ من التاريخ، وكان التاريخ حكماً على الرواية على نقيض ما فعله روائيو الغرب، وفي مقدمتهم ديماس وسكوت، فإذا صحَّ أن نسمّي الإفرنج بالرواية التاريخية، فإن ما كتبه جورجي زيدان هو الأقرب إلى مصطلح ((رواية التاريخ))، وهو يدرك ذلك، كما جاء في بيانه المذكور، لأنّ ما سعى إليه هو التاريخ لا الرواية، في حين أنّ ما كتبه الإفرنج وسواهم من العرب فيما بعد هو الرواية التاريخية، فكان الفن الروائي مقدّماً على التاريخ ، والمخيلة على الوقائع.‏

سار على نهج زيدان في كتابة رواية التاريخ عدد من كتاب الرواية في مصر((13))، كما سار على نهجه في سورية معروف الأرناؤوط (1893 ـ 1948) الذي اهتمّ بالتاريخ الإسلامي في رواياته ((سيّد قريش)) و((عمر بن الخطاب)) و((فاطمة البتول)) وطارق بن زياد))، فأعاد كتابة التاريخ بوساطة الإطار الروائي على طريقة زيدان في سورية، وإن اختلف معه في بعض الأمور غير التقانية، وقد قام بنشر روايته التاريخية الأولى ((سيد قريش)) على صفحات مجلة ((فتى العرب)) بدءاً من عام 1929، وهي من ثلاثة أجزاء، ثم كتب بعدها رواية ((عمر بن الخطاب)) سنة 1936، وقد تقيّد الأرناؤوط تقيداً حرفياً بالوثيقة التاريخية، حتى غدت صفحات رواياته جزءاً من صفحات التاريخ، وهذا ما ذهب إليه أحد الدارسين: ((إنّ أساس جميع الروايات التاريخية لمعروف الأرناؤوط هو الوثيقة التاريخية الحقيقية))((14)), وكان للأرناؤوط هدفان من كتابة هذا النوع من الروايات: الأول ديني، ففكرة النضال لا تنفصل عن فكرة الدين، وهي فكرة الجهاد في الإسلام، والثاني قومي نهضوي، فقد ((أصبح تاريخ العرب في عصور الجاهلية وبدايات الإسلام في روايات معروف الأرناؤوط التاريخية درساً لمعاصريه في سعيهم من أجل النهضة القومية))((15))، هكذا تنتمي هذه الروايات بقوّة إلى المرحلة التنويرية، وهي ابنة الوثائق التاريخية أكثر مما هي ابنة الجنس الروائي، فالتاريخ فيها أول وأساسي ومقدّم، والفنّ الروائي وسيلة من وسائل تقديم التاريخ وتبسيطه والترغيب في قراءته، ولكن ذلك لا يلغي أبداً مالها من فاعلية في الجنس الروائي الذي بدأ ينتشر بقوة في النصف الأول من القرن العشرين، فتعدّدت مرجعياته التاريخية والاجتماعية إلى أن هيمنت المرجعية التخييلية في بنية الرواية ومنها الرواية التاريخية الفنية.‏

ثانياً: المرحلة الفنيّة:‏

بدأت الرواية الفنيّة في سورية في النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت الرواية التاريخية متزامنة فنياً، فأخذ الروائيون يعيدون إنتاج تاريخ سورية في العصر الحديث، وتصنف هذه الرواية ضمن صنفين فنيين: الرواية التاريخية، وهي الغالبة ورواية استلهام التاريخ.‏

يتلجّى في الرواية التاريخية الفنية تاريخ العلاقة الاجتماعية والسياسية في سورية في فترة زمنية محدّدة، ولا تكاد رواية فنية تخلو من الإشارات الزمنية إلى فترة محدّدة، بل إن تاريخ سورية بأحداثه الجسام يشكل العمود الفقري الذي ترتكز عليه بنية هذه الرواية أو تلك، ففي رواية ((المصابيح الزرق)) ـ وهي الرواية الأولى لحنا مينة ـ تسجيل لأحداث تاريخية عاش فيها الشعب العربي في سورية، وفيها وصف لمدينة اللاذقية والبحر في أثناء الحرب العالمية الثانية حيث تجري أحداث هذه الرواية، وفيها وصف للحركات الشعبية والسياسية التي قامت ضدّ الاستعمار الفرنسي في تلك الفترة، وفيها وصف للمواجهات العنيفة التي كانت بين الجماهير الغاضبة وجنود المستعمر الفرنسي، ومنها هذا اليوم الذي بدأ منذراً بالشرّ منذ الصباح الباكر، فابتدأ المطر غاضباً والرياح العاتية عاصفة، واتجه الرجال صوب جامع القلعة، وابتدأت الأحداث خفيفة بين الجنود وبعض الطلبة، ((إلا أنّ الطلاب غابوا في المنعطف، وظهر سواهم في نقطة أخرى، ثم في نقطة ثانية فثالثة، ثمّ دفعة، قعقعت الحجارة على واجهات الحوانيت، ورنّ حجر صلد على خوذة فأطارها، وهرع الجنود فاحتموا بالجدران، وجاءتهم من الزوايا والمنعطفات، والأسطحة وقبب الحمامات، والمآذن حجارة لا عدّ لـه ا))((16)).‏

ترصد روايات حنا مينة الحياة الاجتماعية والسياسية في مكان وزمن محدّدين، وهذا ما كان في روايته الثانية التي سجل فيها حياة الطروسيّ البحار في مدينة اللاذقية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ورصد فيها شيئاً غير قليل من واقع سورية في تلك المرحلة في بقعة من سورية تصلح لأن تمثل أي بقعة أخرى في هذه البلاد، صحيح أنّ هذه الرواية ترصد حياة محمد بن زهدي الطروسي وصلته بالعمّال من جهة وأمّ حسن من جهة ثانية، ولكنّ الصحيح أيضاً أن هذه الرواية تترصّد فترة محدّدة من تاريخ سورية النضالي ضدّ الاستعمار الفرنسي وضدّ المتعاونين معه والمتنفذين من رجالات ذلك الزمن، فقد كان أبو حميد الحداد يقضي معظم أوقاته في مقهى الطروسي يتنصّت إلى إذاعة برلين العربية، ويترقب انتصارات الألمان على الفرنسيين الذين استعمروا البلاد ونكلّوا بأهلها وبالمواطنين الشرفاء، وأقاموا صلات لـه م ببعض العملاء من أبناء الوطن، ولذلك كان أبو حميد ينتظر بفارغ الصبر خبراً يتشفى به من هؤلاء وأولئك، حتى لو كان هذا الخبر انتصار النازية على الفرنسيين، ليتخلص شعبه من هذا المستعمر وأعوانه، وليس هذا الموقف مقتصراً على أبي حميد، وإنما هناك أمثاله في اللاذقية وسواها من المدن السورية الأخرى كما تعرّفنا هذه الرواية على انتصار الطروسي للعمّال والدفاع عنهم، وهذا يبيّن أيضاً تاريخ الحركة العمّالية في ذلك الزمن في سورية، كما ينتصر للحق والمرأة البغيّ المظلومة التي استغلها السّمان استغلالاً دنيئاً وهي طفلة، فاستدرجها إلى حانوته، ثمّ اغتصبها، ثم تنقلت من مدينة إلى أخرى ومن اغتصاب إلى آخر إلى أن ظهر الطروسيّ في حياتها، فأخرجها من المبغى، وتحولت من نجوى إلى أمّ حسن، فأخلصت للطروسي قلبيّاً وجسدياً ونفسياً، ولما قرّر الطروسي أن يرحل مرّة أخرى في البحر، وخشيت أم حسن على مستقبلها، وبكت كما لم تبكِ من قبل انتفض، وأخذ يقبلها، ووقف في وسط الغرفة وقال:‏

ـ أعطني تذكرة نفوسك.‏

ـ لماذا؟‏

ـ أضروري؟‏

وارتمت عليه، وهي تبكي فرحاً، وقال لـه ا، وهو يمارس نفس شعورها وفرحتها: ((ستصبحين زوجتي الشرعية بإذن الله))((17)).‏

إن شخصية الطروسي من أهم الشخصيات الروائية التي ابتدعتها مخيّلة هذا الروائي، ولا شكّ في أنها وفرت لـه حظاً من النجاح والانتشار، ولذلك عاشت في ذاكرة القراء، وهي تمثل شخصية الإنسان الجديد في المجتمع العربي في سورية، وهذا ما دفع حنا مينة إلى أن يرى أنّ الناس في اللاذقية يرون في الطروسي جداً لـه م، حتى إن كل صياد ونجار يدّعي بأن الطروسي قريبه((18)).‏

إنّ الرواية السورية اجتماعية كانت أم غير ذلك تهتم بتسجيل الأحداث التاريخية التي تمر بها البلاد في أثناء زمن أحداث الرواية، ففي رواية ((مكاتيب الغرام))، وهي رواية اجتماعية، تفصيلات تاريخية هنا وهناك، ففي الفصل الأول كانت دلال بطلة الرواية في صفّ الروضة، وأصبحت في الفصل الثالث في التجهيز، ويعيش القارئ في الفصل السابع التظاهرات التي كانت تعمّ البلاد في زمن حسني الزعيم، ويتعرف أجواء السجون التي كانت تغصّ بالمساجين((19))، ويعدّ انقلاب الزعيم حسني الزعيم 1949 بداية لمنعطف خطر في تاريخ ((المنخورة)) رواية عبد الإله الرحيل، فقد استطاع إسماعيل المدهون الإنسان الغريب عن المنخورة وبوسائله القذرة أن يصل إلى مدّيديه إلى أموال الناس وأراضيهم وممتلكاتهم في المنخورة، فلما توفي إسماعيل استطاع ولده قاسم بطل ((المنخورة)) بما ورثه عن والده من أموال وأساليب انتهازية ملتوية أن يتمدّد في فضاء المنخورة، وأصبح يمتلك المزارع التي يعمل فيها كثير من أهل هذه القرية، واستطاع أيضاً أن يقرّب بعض المرتزقة والنفوس الرخيصة، وكانوا من أصحاب الحلّ والربط، ليتحوّلوا إلى دعاة ومبشرين بمجده الزائف، وفي مقدمة هؤلاء خطيب المبطون إمام جامع عمر بن عبد العزيز ا لذي كان يستعين بالنصوص الدينية لإضفاء الشرعية على سلطة المدهون، وقد كان للمؤسسة الدينية هنا وهناك دور فاعل في ترسيخ السلطة، وكان المبطون يصف قاسماً في خطب يوم الجمعة بأنه ((قد استوعب الدين بالقلب والعقل، وأنّ أفعاله تصدّق أقواله)) ((20))، وكثيراً ما كان المبطون يدعو لقاسم بطول البقاء، ويسبّح بحمده وآلائه، ويذكر خصاله وسجاياه مقابل المكافآت والهبات، وإذا سئل عن قاسم قال مبتسماً: ((لندع لـه بالتوفيق، فما أعرفه عن تقواه وعدله، وما يفكر به لخير هذه القرية وأهلها، لا تعرفون عنه شيئاً))((21))، ومن الذين أسّسوا لسيادة القهر والظلم أبو المدّاح الأشرم الذي جعل من قاسم المدهون نبيّ المنخورة((22))، متغاضياً عن كلّ شيء، وهو لا يرى من أفعاله سوى ما يصله منه من صلات وتكريم، وهكذا حتى كانت((المنخورة)) اسماً على مسمّى، فهي القرية التي نخرها الفساد والظلم بعد أن حلّ بها الغرباء بدءاً من إسماعيل المدهون الذي أسّس للفساد والرذيلة إلى ولده قاسم الذي أسّس لسلطة الظلم والاغتيالات، فغدت هذه ا لرواية تاريخاً للقهر في المنخورة.‏

وتدور أحداث رواية ((العصاة)) لصدقي إسماعيل حول صراع الشعب العربي في سورية ضدّ الأتراك أولاً، ثم ضد السلطة الفرنسية ثانياً، ثمّ ضد الفكر السلفي بعد الاستقلال ثالثاً، وهي ترصد تطور أسرة آل عمران الإقطاعية منذ أواخر العهد العثماني حتى منتصف القرن العشرين، فترصد ثلاثة أجيال، كما فعل نجيب محفوظ في الثلاثية إذ رصد أسرة أحمد عبد الجواد في ثلاثة أجيال متتالية، ففي القسم الأول (آل عمران) يبيّن الراوي وأوضاع هذه الأسرة وأضاع سورية قبل الحرب العالمية الأولى وسقوط البلاد تحت الحكم الفرنسي، فتقوم كثير من شخصيات الرواية بالنضال ضد الفرنسيين، ويعرض في هذا القسم حادثة سلب اللواء، ويصف الراوي في القسم الثاني ((الصديقان)) تطوّر الفكر السياسي الاشتراكي في سورية خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتظهر في القسم الثالث ((العصبة)) النشرة السياسية التي تتميز بأفكارها الجريئة من سياسة البلد، وبخاصة تجاه القضية الفلسطينية.‏

لكنّ هذا التطور في أسرة آل عمران كان نتيجة للتطور السياسي والتاريخي في سورية، ففي الوقت الذي كان فيه محمد آل عمران يتصل بالوالي التركي والسلطان العثماني معلناً ولاءه التام تحوّل الأمر مع حفيده عدنان إلى أن يتصل بهاني المنذر زعيم ((العصبة))، وهي المنظمة التي كانت تقود جيل الشباب وتخطط للثورة السياسية، فقد ولد عدنان في عام الثورة السورية، وتفتّح وعيه للحياة في غمرة الاضطرابات السياسية التي كانت تجتاح المدارس في الفترة القصيرة السابقة لعام 1936، وهو العام الذي اقترن بانتشار الروح الوطنية في أنحاء البلاد((23)).‏

ويؤرخ عبد الكريم ناصيف في روايته الأخيرة ((وجهان لعنقاء واحدة)) لأحداث معاصرة جداً تعود إلى زمننا الذي نعيش فيه، وتمتد أحداث الرواية إلى ما بعد سقوط بغداد الأخير، فقد هب ثلة من شبان الفرات الذين تسللوا مع مجموعات عربية إلى الأرض العراقية التي تواجه قوّات التحالف، وكان همام مع سواه من الشبان الذين أبوا إلا أن يسقوا أرض العراق بدمهم الطاهر النبيل دفاعاً عن حريته وعروبته وكرامته((24)).‏

إنّ التاريخ في هذه الروايات موضوع إطاري ظاهرياً، ولكنه في حقيقة الأمر متجذر في بنيتها وبخاصة فيما تتناوله من موضوعات اجتماعية، فنجيب محفوظ في ((الثلاثية)) يتحدّث عن تاريخ مصر في فترة عصيبة من القرن العشرين، ولكنّ ذلك مبطن بالحديث عن التطورات الاجتماعية في أسرة أحمد عبد الجواد، وهذا ما صنعه صدقي إسماعيل في ((العصاة))، فقد تحدّث هو الآخر عن تاريخ سورية في فترة محدّدة من القرن العشرين، ولكنّ ذلك تمّ من خلال الحديث عن التطورات الاجتماعية في أسرة آل عمران الإقطاعية بدءاً من محمد آل عمران الجدّ إلى حفيده عدنان، وهذا ما فعله عبد الإله الرحيل في ((المنخورة))، فقد تحدّث عن أسرة آل مدهون بدءاً من إسماعيل الإنسان العادي الذي التجأ إلى قرية المنخورة، ثمّ استخدم جميع الوسائل ليحسّن أوضاعه الاجتماعية، وسار ابنه قاسم على دربه، واستطاع بوسائله المتطورة وطموحاته البعيدة أن يحكم المنخورة لفترة طويلة، وأن يحوّل تاريخها إلى قرية للقهر بعد أن كانت مثالاً للتعاون والمحبة قبل حلول هذه الأسرة الغريبة فيها. أما رواية استلهام التاريخ للتعبير عن الراهن، فهي نقيض رواية التاريخ عند زيدان والأرناؤوط وأمثالهما، وليس القصد منها العودة إلى التاريخ وإعادة القراءة، ولا هي للاستنارة به أو تعليمه، وإنما هي قراءة تحريضية تأويلية للراهن، وليس التاريخ فيها سوى قشرة سطحية لإخفاء البنية العميقة، أو هي تستخدم التاريخ بصفته تقانة لا موضوعاً، ولذلك كان التاريخ قناعاً أو مرآة ليرى القارئ من خلالها الواقع، وهذا ما فعله خيري الذهبي في روايته الأخيرة ((فخّ الأسماء)) التي سار فيها على طريقة رواية ((الزيني بركات))((25))، لجمال الغيطاني، وهي رواية ذات بنية مفتوحة على التأويل ضمن مستويين: مستوى القراءة ومستوى التأويل، وهذا ما يتجلّى من العنوان نفسه ((فخّ الأسماء))، فالأسماء مفخّخة في هذه الرواية، فمدينة السلطان ليست بعيدة عن أيّ مدينة عربية من بغداد شرقاً إلى الدار البيضاء غرباً، ومن صنعاء والخرطوم جنوباً إلى دمشق شمالاً، وهي طرابلس الغرب والرياض والقاهرة وتونس والجزائر وبيروت، وأيّ مدينة ما يزال رأسها وسيّدها السلطان المملوكي، والسلطان المملوكي هو أي حاكم عربي معاصر مدجّج بقوّة القهر، وإذا قطع رأس المدينة ماتت، ولذلك إن الجاشنكير يتذوق طعام السلطان لوناً فلوناً وخبزة فخبزة، ويصبّ الشراب دار كأساً من إبريق شراب يحمله، فيشرب منه شربة، ثمّ يبتلعها خوفاً على حياة السلطان، والجارية التي تقوم على استحمام السلطان تسكب أولاً طاساً من ماء الحمام على جسدها، وتتمضمض بالماء من كلّ جرن، ليكون الحمام جاهزاً، حتى أنّ الجارية الأرمنية العملاقة ترتدي ملابس السلطان الداخلية،وتقوم جاريتان أخريان بحكّ الثياب الداخلية بجسدها للتأكد من أنّ الملابس خالية من السموم((26))، وبما أنّ السلطان المملوكي هو الأول والأخير لـه ذه المدينة، فإن أنصاره يقتلون أنفسهم للدفاع عنه أو للردّ على إهانة رسول الجغتائي، فلما أشار السلطان بخنصره، فإذا واحد من الحرافيش يقفز فوق رؤوس الناس حتى يصل إلى الساحة الخالية بين الجمعين، فينقضّ على السكين التي ما تزال فارهة، ويهتف: روحي فداؤك أيّها السلطان، روحي وروح أبنائي كلهم فداء نعلك أيها السلطان العظيم((27))، ولذلك إن الناس لا يعيشون في هذه المدينة لأنفسهم، وإنما يعيشون لخدمة السلطان، وهذا منتهى أربهم. وليس الجغتائي اللعين الذي أرسله الله إلى مدينة السلطان بعيداً عن أيّ عدوّ خارجي يداهم مدينة السلطان ويفتحها بالقوّة، وبخاصة أنّ مدينة السلطان بلا ذكور لحمايتها، لأنّ الله كان يخلق البشر والعباد ذكوراً وإناثاً، ولكنّ السلطان كان يخصي كلّ من اخشوشن صوته أو نفحت رائحة نزوه، ويهيمن الخوف والرعب على مدينة السلطان المملوكي، فعلى الرعية أن تطيعه ظاهراً وباطناً، وعليها أن تبتعد عن المحظورات، فعلى الفتيان ـ مثلاً ـ أن يبتعدوا عن التزيّن والتغندر والتجديد والتغيير، فذلك كلّه من البدع، ولذلك كان نوري يخشى على حمائمه التي استولدها بعد تجارب أجراها خلال عشر سنوات في تزويج الذكر الهندي والأنثى المروحية لاستيلاد نوع من الحمائم لا مثيل لـه في مدينة السلطان، وكان السلطان قد أمر رجاله بتفتيش البساتين أوان الثمر، ومن عثروا لديه على شجرة زانية واحدة، فعقوبته الجلد وقطع اليد التي ارتكبت هذا الإثم((28))، وإن مصير الإنسان الذي يخالف التعليمات في هذه المدينة شبيه بمصير برهان الدين الذي رمي في قاع بئر مظلمة((29))، أو شبيه بمصير الحكم دار الذي تعرّض لعملية الجلد حيّاً((30)) أو سوى ذلك.‏

إن مستوى القراءة في هذه الرواية يستدعي بالضرورة مستوى التأويل، ففي عمق النص أكثر مما على سطحه، وهو نصّ يتناول حدثاً تاريخياً قديماً في ظاهره، ولكنّه مفتوح على الراهن بقوّة، هو نصّ مشعّ إيحائي يستلهم الحدث التاريخي ليعبّر بوساطته عن تجارب يعيش فيها الإنسان العربي المعاصر، وهو غاية هذا النص، هكذا تحول عنصر التاريخ في بنية الرواية في سورية من هدف إلى وسيلة ومن مقصود لذاته إلى مقصود لسواه، ومن موضوع إلى تقانة، ومع ذلك كلّه فالمطلوب من بنية هذه الرواية ما زال كبيراً جداً، فالرواية في العالم قد قطعت أشواطاً بعيدة للخروج من الرواية التقليدية ذات السرد الخيطي، وما زالت بنية الرواية في سورية أسيرة هذا السرد، وما زال اللعب على الحدث مهيمناً في معظم الروايات، وما زال الراوي الخبير يمسك بخيوط السرد بين يديه، وكأنه الحكواتي، ولذلك ظلت الشخصيات الروائية شاحبة الوجوه، وكأنها مصابة بفقر الدماء وبمرض نقص المناعة، فضلاً عن أنّ الفضاءات المفتوحة ما زالت دون المطلوب منها، فهي فضاءات مؤهلة لإنجاز رواية مشاكسة متمرّدة فنياً وجمالياً، أما التصريح بالمسكوت عنه الذي يطبّل ويزمر لـه بعض القرّاء والنقاد، وبخاصة في موضوعات الجنس فهذا قد غدا أمراً مألوفاً وعادياً في عصر الفضائيات والإنترنت والعولمة، ولا أرى أنه قادر على حماية هذا الجنس من التراجع، لأن عنصر التشويق متغيّر ونسبي، والحاجة إليه متغيّرة عصرياً، فالتشويق في الرواية الرومانسية كالحبّ الجارف ورسائل الأشواق والدموع التي كانت تشدّ القارئ في روايات غوته وألفريد موسيه وفكتور هوغو ومحمد حسين هيكل وسواهم لا تقنع القارئ الجديد إن لم تكن مدعاة للسخرية والتهكم، فالقارئ بحاجة إلى الفنّ الحقيقي والجمال، ونحن قد فتحنا الباب الإبداعي على مصراعيه، وغاب النقد الفني الجاد الصارم، فتسلل إلى حرم الرواية، كما تسلل إلى حرم الشعر، كثير ممن لا عمل لـه م ولا عمل لـه نّ، مما سيؤدي حتماً ـ إن لم نقم بغربلة هذا الجنس ـ إلى أن نقف في آخر الصفّ في الرواية العربية المعاصرة، وهذا ما نرفضه بشدّه قاسية ونعلنه بصدق مؤلم، ولذلك علينا أن نعمل معاً للنهوض بهذا الجنس قبل أن نندم حين لا يفيد ا لندم.‏

وبعد، فإنّ الرواية بطبيعتها الواقعية أقرب إلى التاريخ منها إلى الملحمة، فأبطال الثانية فوق الزمن آلهة أو أشباه آلهة، وهم خارجون عن الزمن، في حين أن أبطال الرواية عناصر بشرية تعيش ضمن زمن محدّد، لذلك كانت الرواية تاريخاً لم يكتبه المؤرخون، لأنّ منطق الروائي غير منطق المؤرخ، فهذا يقوم على صدق الأحداث الواقعية، ويقوم ذاك على صدق الأحداث المتخيّلة، ولذلك كان للمتخيّل سطوة نافذة في أذهان القراء وقلوبهم، فالفنان يُعيد قراءة التاريخ ويعيد تركيبه وفق ما يحلو لـه ، ولذلك لا يتحمل تبعة صدق الواقع، ولكنّه يتحّمل تبعات ما في عمله الفني من عيوب جمالية، وإذا كان الروائي يتناول موضوعاته التاريخية مباشرة (زيدان) فإن سطوة التاريخ على الفن مهيمنة، وتكون نقيض ذلك إذا تناولها بلا مباشرة، وحينذاك يموت عالم المؤرخ ليولد عالم الروائي على الورق.‏

الهوامش والتعليقات:‏

1 ـ انظر: أرسطو طاليس: فنّ الشعر، تر. عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت 1952، ص 65.‏

2 ـ نقلاً عن هتشيون، ليندا: رواية الرواية التاريخية (تسلية الماضي)، تر. شكري مجاهد، مجلة فصول، م 16، ع 2، صيف 1993، ص 69.‏

3 ـ للتوسّع في ذلك انظر: الموسى، د. خليل: وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث، منشورات اتحاد كتاب العرب بدمشق، 1994، ص ص 27 ـ 30.‏

4 ـ الحجمري، عبد الفتاح: هل لدينا رواية تاريخية، فصول، م 16، ع 3، شتاء 1997، ص 63.‏

5 ـ دراج، د. فيصل: الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 2004، ص 132.‏

6 ـ القاضي، محمد: الرواية والتاريخ: طريقتان في كتابة التاريخ روائياً،فصول، م 16، ع 4، ربيع 1998، ص 43.‏

7 ـ فن الشعر، ص 26.‏

8 ـ انظر دراسة د. جابر عصفور في مقدمة ((غابة الحق))، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، 2001، ص 9.‏

9 ـ للتوسع انظر أبو زيد، د. أحمد: التنوير في العالم العربي (قراءة أنثربولوجية)، عالم الفكر، م 29، ع3، يناير ـ مارس 2001، ص ص 43 ـ 45.‏

10 ـ زيدان، جرجي: الحجاج ابن يوسف، دار الهلال، د. تا، من المقدمة ومن ص 316.‏

11 ـ هذا ما صنعه مثلاً نجيب الكيلاني في روايته ((اليوم الموعود))، فأضاف إلى الشخصيات التاريخية شخصيات موضوعة، ومنها شخصيات عدنان المنذر وزمردة (ياقوتة الغجرية) وعبد الأعلى بن سلمان وسواها، وقد أضاف إلى الأحداث التاريخية قصة الحبّ التي أقامها بين عدنان وجاريته زمردة، وكادت هذه القصة الاجتماعية المختلقة تطغى على الأحداث التاريخية.‏

انظر: الكيلاني، نجيب: اليوم الموعود الشركة العربية للطباعة والنشر بمصر.‏

د. ت.‏

وانظر دراسة عن هذه الرواية: الموسى، د. خليل: آفاق الرواية، مطبعة اليازجي، دمشق، 2002، ص ص 95 ـ 113.‏

12 ـ القصة في الأدب العربي الحديث (1870 ـ 1914)، دار الثقافة، بيروت 1966، ص ص 182 ـ 183.‏

13 ـ نذكر من هؤلاء محمد سعيد العريان (1905 ـ 1964) في رواياته التاريخية ((قطر الندى)) و((على باب زويلة)) و((شجرة الدرّ))، ونجيب الكيلاني (1931 ـ 1995) في معظم رواياته التي اهتمّ فيها بالتاريخ الإسلامي، وله ما ينوف على ثلاثين رواية وستّ مجموعات قصصية وستّ مجموعات شعرية.‏

14 ـ برمو، د. عبد الرحمن: الرواية التاريخية في الأدب السوري المعاصر (د. ن)، دمشق، ط1، 1996، ص 96.‏

15 ـ المرجع نفسه، ص 97.‏

16 ـ مينة، حنا: المصابيح الزرق، دار الفكر الجديد، بيروت، 1954، ص 136.‏

17 ـ مينة، حنا: الشراع والعاصفة، منشورات مكتبة ريمون الجديدة، بيروت، 1964، ص 378.‏

18 ـ مينة، حنا: هواجس في التجربة الروائية، دار الآداب، بيروت، ط 1، 1982، ص 82.‏

19 ـ الكيّالي، حسيب: مكاتيب الغرام، دار الفارابي، دمشق، 1956، ص ص 63، 64.‏

20 ـ الرحيل، عبد الإله: المنخورة، اتحاد الكتاب العرب، بدمشق، 2003، ص 53.‏

21 ـ المصدر نفسه، ص 52.‏

22 ـ المصدر نفسه، ص 80.‏

23 ـ إسماعيل، صدقي، العصاة، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1964، ص 157.‏

24 ـ ناصيف، عبد الكريم: وجهان لعنقاء واحدة، اتحاد الكتاب العرب دمشق، 2004، الوجه الثاني ص ص 97 ـ 206.‏

25 ـ تتناول رواية ((الزيني بركات)) هزيمة المصريين في مطلع القرن السادس عشر الميلادي بقيادة السلطان قانصوه الغوري أمام السلطان العثماني سليم الفاتح في مرج دابق، ليعبّر من خلال هذا الحدث التاريخي عن حدث تاريخي معاصر، وهو هزيمة العرب أمام الكيان الصهيوني، ولذلك كان التاريخ مشجباً علّق عليه الغيطاني ما يريد أن يقوله في هذه الرواية، أو هو قناع ولذلك كانت رواية ((الزيني بركات)) رواية لا رواية تاريخية، وهي تتحدّث عن الراهن لا الماضي. وهو يريد أن يكشف عن الآلية التي أدت إلى هزيمة حزيران، وهذا ما فعله خيري الذهبي في رواية ((فخّ الأسماء)).‏

انظر عن رواية ((الزيني بركات)):‏

1 ـ عاشور، د. رضوى: الروائي والتاريخ ((الزيني بركات)) لجمال الغيطاني، الطريق، س 40، ع 3، و4، آب 1981، ص ص 131 ـ 142.‏

2 ـ القاضي، محمد: الرواية والتاريخ، فصول، م 16، ع4، ربيع 1998، ص ص 42 ـ 55.‏

26 ـ الذهبي، خيري: فخّ الأسماء، دار الآداب، بيروت، ط 1، 2003، ص ص 22 ـ 23.‏

27 ـ المصدر نفسه، ص 100.‏

28 ـ المصدر نفسه، ص 14.‏

29 ـ المصدر نفسه، ص ص 269 ـ 286.‏

30 ـ المصدر نفسه، ص ص 206 ـ 207


للنشر
الجزء الرابع
مُساهمة السبت مارس 26, 2011 10:21 pm من طرف للنشر
الجزء الرابع

محور الرواية فنيّاً وتاريخياً في سورية: 1 ـ مصطلح الرواية.

أولاً: الرواية والاتساع الاصطلاحي في البدايات: لمصطلح الرواية في الإبداع والنقد العربيين تاريخ من الاضطراب والفوضى وعدم الاستقرار، ففي الإبداع أطلق المصطلح أولاً على المسرحية (الرواية التمثيلية) منذ ولادة المسرح على يدي مارون النقّاش في عام 1847م، واستمرّ ذلك مع تلاميذه إلى وقت متأخر تجاوز زمن إنجاز مسرحيات أحمد شوقي إلى بعض كتب النقد، فـ"أبو الحسن المغفّل أو هارون الرشيد"، لمارون النقاش "رواية مضحكة ملحنة من ثلاثة فصول" كما جاء في عنوانها(1)، وأعمال أبي خليل القباني وُسمت بمصطلح "الرواية" وقد وصل إلينا منها ثماني روايات (مسرحيات) نقلها الدكتور محمد يوسف نجم، ومنها هذا العنوان الرئيس لواحدة منها "رواية هارون الرشيد مع الأمير غانم بن أيوب وقوت القلوب" وعنوانها الثانوي التوضيحي "Sous titre" "هي رواية تاريخية غرامية أدبية تلحينية تشخيصية ذات خمسة فصول"(2)، ونلاحظ على العنوان الرئيس الطول والتعدّد من جهة، والتفصيل من جهة ثانية. أما العنوان الثانوي فهو توضيحي يهتمّ ببنية النص وموضوعاته، فالرواية تعود إلى التاريخ في أحداثها وبعض موضوعاتها، وهي من عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهي رواية غرامية ذات موضوع اجتماعي قريب من حكايات "ألف ليلة وليلة" التي تنبّه عليها المسرح العربي منذ مارون النقّاش، وهذا الموضوع في العشق والغزل والمغامرات، ثمَّ هي رواية أدبية للدلالة على ما في هذه الرواية من أبيات شعرية راقية وحكاية منسوجة نسجاً فنيّاً، ثمّ هي رواية تلحينية، لحمتها الغناء والموشحات والأنغام والرقص، وهي رواية تشخيصية، وهذا ما يميّزها من سواها من الروايات، وكلمة تشخيصية تؤكّد أنّها مسرحية، ثمَّ هي رواية مؤلفة من خمسة فصول.‏

استمرَّ هذا الخلط الاصطلاحي في الإبداع إلى وقت متأخّر، فسمّى أحمد شوقي مسرحياته بـ"الروايات"، وإذا كان سابقوه قد قدّموا معلومات مفيدة في العنوان الرئيس أو العنوان الثانوي فإنَّ أمير الشعراء اكتفى بتسمية "رواية"، فقال: "رواية مصرع كليوباترا"، "رواية قمبيز"، "رواية مجنون ليلى"، "رواية عنترة"... الخ، ثمَّ إنَّ النقد نفسه لم يسلم من هذا الخلط، ولم يتنبّه على أنَّ الرواية من روى، وهي من القصّ والسرد والحكاية، ولذلك هي بعيدة عن العمل المسرحي الذي تتكلّم فيه الشخصيات لا الراوي، ومع ذلك فإن العقاد نفسه أطلق على دراسته لمسرحية قمبيز لشوقي عنواناً هو "رواية قمبيز في الميزان"، وظلّ إدوار حنين في دراسته القيمة المبكرة "شوقي على المسرح" يكرّر عبارة "روايات شوقي"، وهو يقصد "مسرحياته"، فيقول: "هذا أول ما يلفت نظر القارئ في روايات شوقي"(3)، ويتساءل: "فما العمل، وشوقي ممّن ينشئون رواياتهم على ذكر الحوادث"(4)، ويقول: "فجاءت الرواية (الشوقية) ذات واقعتين"(5)، ويقول عن بهاتة شخصياته: "وقد لا تفرّق أشخاص روايات شوقي عن الآلات المتحركة"(6)، وهذا الخلط في المصطلح أوقع يوسف أسعد داغر في معجمه الرائد "معجم المسرحيات العربية والمعرّبة –1848-1975م" في مغالطات كثيرة بين المسرحية والأجناس الأدبية الأخرى"(7)، فذكر في معجمه عدداً غير قليل من الأعمال الأدبية المختلفة (قصائد غنائية طويلة قصص طويلة) على أنَّها مسرحية.‏

وعُرِّبت الرواية عن الفرنسية "ROMAN" التي كانت سائدة في أواخر القرن التاسع عشر باسم "رومان" وجمعها "رومانيات"، للدلالة على هذا الجنس الأدبي الجديد، وإذا أضيفت إليها كلمة "رواية" أو "قصة" فهي إشارة إلى فعل الرواية أو القصّ لا الجنس الأدبي، كأن تقول رواية تاريخية، وهذا ما عبّر عنه الخالدي في معرض حديثه عن نثر فكتور هوغو، فقال: "المنثور من كلام فكتور هوكو على فنون كثيرة منها في القصص المعبّر عنها بالرومان، ومنها الأدب والفلسفة والانتقاد الأدبي والتاريخ والرحلة والمراسلات والأقوال والأعمال والمشهودات ونحو ذلك"(8).‏

وربما كان جورجي زيدان من أوائل الذين أطلقوا مصطلح "الرواية" على هذا الجنس الأدبي الوليد، فقد كتب في مجلة "الهلال" الصادرة في 15 تشرين الأول لسنة 1902م مقالة بعنوان "الروايات ـ أصلها وتاريخها" بدأها بقوله: "نريد بالروايات القصص التي يعبّر عنها الإفرنج بالرومان"(9)، ولكن فرح أنطون يرفض في مقالته "إنشاء الروايات العربية" هذه التسمية، وحجّته في ذلك لغوية من جهة، وتداخل مدلول هذا المصطلح مع آخر من جهة أخرى، ويفضل "القصة" تسمية لـه ذا الجنس فيقول: "كثر في السنوات الأخيرة وضع القصص العربية، فقلّما يمرّ شهر إلا وتصدر بضع منها في البلاد التي فيها مطابع عربية. وهم يسمّونها "روايات" وهذا خطأ في التسمية لأنّ الروايات في اللغة الأحاديث المنقولة بالتواتر من فلان عن فلان، فيلزم أن يكون هناك راوٍ ومرويّ عنه وحديث مرويّ. فاسمها الحقيقي إذاً قصة لأنها عبارة عن أحاديث ووقائع يتخيّلها المؤلف ويقصّها على قرائه"(10).‏

ومن التخبّط في هذا المصطلح التنازع فيما بعد بين القصة والرواية، سواء أكان ذلك في الإبداع أم النقد، ففي بدايات الرواية الفنيّة أُطلق عليها مصطلح "قصة"، وهذا كثير، وبخاصة في مصر بدءاً من "زينب" لمحمد حسين هيكل إلى سواها. أما الدراسات فقد توزّعت هي الأخرى بين هاتين التسميتين، فلمحمود تيمور "فنّ القصص"، وليحيى حقّي "فجر القصة المصرية" ولمحمد يوسف نجم "فنّ القصة" و"القصة في الأدب العربي الحديث"، ومثل ذلك لشاكر مصطفى وحسام الخطيب ونعيم اليافي، ولعبد المحسن طه بدر "تطور الرواية العربية الحديثة في مصر ـ 1870-1938م"، ولحسن بحراوي "بنية الشكل الروائي" ولمحمد الباردي "الرواية العربية والحداثة"، ولفاروق خورشيد "في الرواية العربية"، ولجورج سالم "المغامرة الروائية"، ولعبد الفتّاح عثمان "بناء الرواية"، ولسيزا قاسم "بناء الرواية"، ولصلاح فضل "أساليب السرد في الرواية العربية"، ولسمر روحي الفيصل "بناء الرواية العربية السورية"، ولسيّد حامد النسّاج "بانورما الرواية العربية الحديثة"، ولسعيد يقطين "الرواية والتراث السردي"، ولصاحب هذه السطور "آفاق الرواية"، ولا شكَّ في أنّ هذا التنازع قد أدَّى هو الآخر إلى اضطراب في تحديد هذا المصطلح، وإن حُصر ضمن الجنس السردي، وأخذ يميل في الفترة الأخيرة إلى الاستقرار على "الرواية"، فصدرت أعداد من مجلتي "الطريق" و"الآداب" حول الرواية ثمّ صدر العدد 34 من مجلة "الفكر العربي المعاصر" ربيع 1985 بعنوان "وجه البطل في الرواية المعاصرة"، كما صدرت أعداد هامة من مجلة "فصول" مخصصة لـه ذا الجنس، ومنها العدد الأول ربيع 1993 بعنوان "زمن الرواية"، والعدد الثاني صيف 1993 بعنوان "دراسة الرواية"، والعدد الثالث شتاء 1997 بعنوان "خصوصية الرواية العربية ـ الجزء الأول" والعدد الرابع 1998 بعنوان "خصوصية الرواية العربية ـ الجزء الثاني" وسواها.‏

تعثّر مصطلح الرواية في بداياته لما واجهه من نظرة احتقارية أخلاقية وأخرى دونية فنيّة، ففي المقياس الأخلاقي هاجم بعض رجال الدين الرواية بصفتها جنساً هابطاً وسوقياً مسبباً للانحلال الخلقي، وحذروا من مغبّاته وتبعاته وقراءته، وربما عاد ذلك إلى أن الرواية بنت الرومانس، وهي حكايات شعبية في المغامرات والعشق والمجون، وهي شبيهة إلى حدّ ما بحكايات "ألف ليلة وليلة" التي ما تزال إلى يومنا بين رفض وقبول لما فيها من مجون وصراحة وكشف المستورات، فوجدوا في قراءتها خطراً على الأخلاق العامة في مجتمع محافظ، حتى إنّنا قد نجد رجلاً من رجالات النهضة، وهو من رجالات العلم الصارمين، هو يعقوب صرّوف يحذر في مجلته "المقتطف" المعروفة باتجاهها العلمي من تبعات قراءة الشبان والشابات للروايات التي تتناول موضوعات العشق، فيرى في مقالته "ضرر الروايات والأشعار الحبِّية" المنشورة في "المقتطف ـ س7 ـ ج3 ـ آب 1882م" أنّ على الأهل والمربِّين أن يوجهوا أبناءهم إلى قراءة الكتب المفيدة، وهو يحمّل هذا النوع من الروايات تبعات الانحلال الأخلاقي، فيقول "لو استقرينا قلق الشبّان والشابات لوجدنا أكثره مسبّباً عن الحب الباكر الناتج من قراءة الروايات والأشعار الحبيّة، فإن الشاب إذا قرأ رواية حبيّة جعل يستغنم كلّ فرصة لقراءة ما شاكلها من الروايات فيضيع وقته سدى ويفسد ذوقه ويهمل واجباته وقد يتعلّق بحبال الحبّ الباكر وليس لـه من نفسه رادع يردعه فيصرف شبابه فيما يوقعه في الندم أخيراً، وما قيل في الشبّان يُقال في الشابات. ولذلك يجب على كلّ الذين يعتنون بتربية الأولاد أن لا يسلموهم إلا الكتب التي تُربِّي عقولهم وآدابهم خير تربية. وأن لا يسلّموهم كتباً فيها شيء ممّا يفسد الأخلاق ويطوح في الهوى مهما كان قليلاً لأنّ درهماً من السمّ يميتُ ولو كان في رطل من الدسم. فإذا رُبِّي الولد على قراءة الكتب المفيدة والبحث في المواضيع النافعة التي تلذّ للعقل وتربّي القوى العقلية والأدبية لم يجد وقتاً لقراءة الروايات الباطلة ونحوها مما يفسد الأخلاق"(11).‏

ويفصّل جورجي زيدان في ردّه على سؤال عن ضرر الروايات أو فائدتها، فينطلق في إجابته من طبيعة الرواية وموضوعها ولغتها، فالرواية عالم مستقل فيه النبيل وفيه الخسيس، وفيه الفصيح وفيه الركيك. والرواية كالرفيق، فإذا كان حميداً تعلّم المرء منه، وإذا كان خليعاً أفسده، ويتمثّل قارئ الروايات بأبطالها، فإذا كانوا نبلاء يدافعون عن القيم والأوطان بعثوا فيه مكارم الأخلاق، وإذا كانوا فاسدين أفسدوا أخلاقه، ولذلك كانت الرواية ليست واحدة، فهي كالحياة فيها الأبيض والأسود، والجيّد والرديء، والخير والشّر، والجمال والقبح، وليس ذلك وحسب، وإنما هي أيضاً من حيث الجودة الفنيّة أنواع، ففيها روايات فنيّة راقية صيغت بقالب فني وحبكة مترابطة ولغة راقية فصيحة، ولذلك يستفيد القارئ منها في تربية ذوقه الفنّي، وفيها روايات هابطة فنيّاً، وهي منسوجة بلغة ركيكة، ولذلك هي ضارّة، ويتلاءم هذا الرأي مع الأهداف التي سعى إليها زيدان في كتابة الرواية التاريخية، فهو من رجالات النهضة العربية، ولابدّ من أن تقوم النهضة على قواعد ثابتة، وهي تربية الأذواق تربية عربية للقدرة على مواجهة ما تتعرض لـه الأمة، ولذلك كان زيدان إصلاحياً وبانياً في الوقت نفسه، وممّا قاله في هذا المجال: "ولذلك فقد ترى أخلاق الأمة بأسرها أظلالاً لأخلاق مؤلفي الروايات فيها وكثيراً ما تكون الروايات داعياً إلى فساد أخلاق الأمة أو محرّكاً لـه م على الثورة لما يمثله مؤلفوها من حوادث الظلم وما يودعونه فيها من أعمال أبطالها كالجهاد في سبيل الحرية أو تجشّم الأخطار سعياً وراء الاستقلال ولذلك كان لمؤلفي الروايات المنزلة الأولى بين علماء الأدب. هذا بقطع النظر عمّا يتخلّل الروايات من الأغراض الأخرى كالتاريخ أو الفلسفة أو علم الأخلاق أو نحو ذلك فهذه كلّها حقائق يستفيدها المطالع عرضاً بغير أن يشعر بملل أو مشقّة"(12).‏

إن المقاييس الأخلاقية والتعليمية والأدبية النهضوية كانت حاضرة في أذهان الكتّاب والنقاد في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فكانت النهضة الهمّ الأول، وهذا ما ذهب إليه حبيب أفندي بنوت المحامي في مقالة لـه بعنوان "الروايات" نشرها في مجلة المقتطف ـ الجزء الثالث. السنة السابعة ـ شهر آب 1882م، فذهب إلى أنَّ الروايات الجيدة تدعّم الأخلاق في قرائها. فـ"القصد من تأليف الروايات تسلية الخواطر وتهذيب الأخلاق فهي آلة يبث بها الكاتب العواطف الشريفة والمبادئ الجليلة وذريعة ينهي بها عن ارتكاب الدنايا على اختلاف أنواعها"(13)، ولم ينسَ هذا الكاتب أن يحذر من خطر الألفاظ البذيئة والحوادث المخالفة للحشمة والأخلاق العربية، وهو يحذر أيضاً من الركاكة الفنية والأغلاط اللغوية والصرفية والنحوية(14)، وليس ذلك وحسب، وإنما هو يُوصي بأن تكون لغة الرواية سهلة المأخذ بعيدة عن التعقيد اللغوي وأساليب عصور الانحدار، وذلك لأنّ قرّاء الرواية غير قرّاء الشعر، ففيهم المثقف والقارئ العادي، ويقول في ذلك: "ومن الكتّاب من كتب رواية بعبارة هي غاية الفصاحة جمعت أساليب البيان وأنواع البديع والتزم السجع في كلّ جملة منها وتلاعب في صنوف التعبير وفنون التحبير مما يشكل فهمه حتى على دارس اللغة ولا نعلم ما الغاية من ذلك والروايات ليست كتباً علمية ليتفقّه بمطالعتها القرّاء ومنهم من لا يستطيع إلا فهم العبارة البسيطة الخالية من الألفاظ اللغوية"(15).‏

وتجلّى المقياس الأدبي الأجناسي في النظرة الدونية لـه ذا الجنس الوليد، فقد ذهب العقاد بما يمتلكه من سطوة أدبية ونقدية نافذة في الأربعينيات من القرن المنصرم إلى أنّ الرواية جنس دون مرتبة الشعر، وهو دون مرتبة النثر أيضاً، والغريب في ذلك أنّ هذا المذهب جاء في وقت متأخر نسبياً، وبعد أن عرفت الثقافة العربية عدداً لا بأس به من الروايات المقبولة فنياً، وربما كان العقاد قد ذهب هذا المذهب لما عُرف عنه من نظرة استعلائية ووعظية تعليمية، وهذا ما تجلى في نقده لشعر شوقي في أوائل العشرينيات في كتابه المشترك مع المازني "الديوان" 1921 الذي أحدث ضجة نقدية كبيرة، ثمَّ جاء في هذه المقالة ليثير ضجّة نقدية أخرى، فقال: "ولكنَّ الثمار العبقرية طبقات على كلّ حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة وأنفذ بديهة من الشاعر أو الناثر البليغ، ولكنّ الرواية تظلّ بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر ودون مرتبة النقد أو البيان المنثور"(16).‏

ليست المشكلة في هذا الرأي المتطرّف أنّ العقاد يجهل أساطين الرواية في العالم، وإنّما هو يعرف كثيرين منهم، فيعدّد بعض الأعلام، كديكنز وتولستوي ودوستويفسكي وبروست وسواهم. ليعلن بعد ذلك حربه الخاسرة على هذا الجنس الأدبي الذي أخذ يزاحم الشعر في عقر داره، وهو يعتمد في ترتيب الأجناس الأدبية على مقياسين: الأداة بالقياس إلى المحصول، والطبقة التي يشيع بينها كلّ جنس من الأجناس، فهو يذهب في المقياس الأول إلى أنه كلّما قلّت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الجنس، ونقيض ذلك صحيح، فكلّما زادت الأداة وقلّ المحصول مال هذا الجنس إلى الإسفاف والهبوط، ولذلك هو يرفع مرتبة الشعر ويُخفض مرتبة القصص والروايات بناء على هذا المقياس الذي هو مقياس خاصّ بالشعر وطبيعته، فيقول: "وما أكثر الأداة واقلّ المحصول في القصص والروايات؟ إنَّ خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:‏

وَتَلَفَّتَتْ عيني فمذ بعدتْ‏





عنّي الطلولُ تلفَّتَ القلبُ‏



(...) لأنَّ الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باقٍ، ولكنَّك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب"(17)، ولذلك يشبّه القصة بالخرنوب. "قنطار خشب ودرهم حلاوة"(18)، ليتوصل إلى المقياس الثاني، وهو مقياس الطبقة، فالشعر للنخبة والرواية للعامة، وتحصيل الذوق الشعري صعب المنال في حين أنّ تحصيل الذوق القصصي مباح وشائع(19).‏

كان الرد على العقاد ودفاعه في هذا الموضوع نقدياً وموضوعياً خالصاً خلا من التجريح الشخصي الذي شاهدناه من قبل في الحرب التي شنَّها العقاد على شوقي في "الديوان" والمعركة النقدية التي دارت رحاها بين العقاد وخصومه من بعد حول وحدة القصيدة(20)، وربما عاد الهدوء هنا لأحد الأسباب الثلاثة الآتية أو لاجتماع غير واحد منها، وهي توافق الأيديولوجيات بين المتحاورين، وإقرار العقاد في قرارته بأنّ معركته النقدية خاسرة سلفاً وبأنه أوقع نفسه في مطبّ المفاضلة بين جنسين مختلفين، أو لأنّ السّن تقدّمت به، فكانت لـه جته أقرب إلى الهدوء والعقلانية، وقد أحدثت مقالته ردوداً على صفحات مجلة "الرسالة" كتبها علي العماري المدرّس بالأزهر ومحمد قطب ونجيب محفوظ، وانطلق العماري في ردّه من مقياسي العقاد، فذهب إلى أن المقياس الأول، وهو المعنى الكثير في اللفظ القليل، لا يصلح للمفاضلة بين القصة والشعر، لأنّ القصة تصوير رائع ووصف دقيق ونقد لاذع لأوضاع المجتمع، ثمَّ أن الخمسين صفحة ربما أعطتنا ما لا يعطيه البيت الواحد من الشعر مهما كانت درجته عالية في الإبداع، ثم ذهب في المقياس الثاني إلى أن الطبقة التي تقرأ الشعر وتتذوقه والطبقة التي تقرأ الرواية وتتذوقها ليست حداً فاصلاً بين الجنسين، فثمة نوع من الروايات رخيص وهابط، ومثل ذلك في الشعر، وثمة نوع من الروايات رفيع كالشعر الرفيع أيضاً(21).‏

وكان ردّ نجيب محفوظ بعنوان "القصة عند العقاد" نشره في مجلة "الرسالة" العدد 635 السنة الثانية عشرة، وقد صدر في أيلول 1945، وهو ينطلق في ردّه من أنّ العقاد كاره للقصة وحاقد عليها، ولذلك كان حكمه عليها حكم مزاج وهوى لا حكم نقد وفلسفة(22)، ثمَّ بدأ محفوظ بتفنيد مقياسي العقاد، فالأول وهو الأداة والمحصول، نافع في الشعر مثلما هو نافع في القصة، وهو صالح للتمييز بين الجيّد والرديء، من آيات الفن الواحد، لا للموازنة بين الفنون المختلفة، لأنّ كلّ فنّ في ذاته يشترط الانسجام الكلي بين أداته ومحصوله، ويستنكر محفوظ أن يرى العقاد كثرة الأداة وقلّة المحصول صفة ملازمة للقصة(23)، أما مقياس الطبقة، وهو أن القصة تنتشر في طبقة لا يتنازل إليها الشعر، أو أن الطبقة التي تقرأ القصة لا ترتقي في الثقافة والذوق إلى الطبقة التي تقرأ الشعر، فهو أيضاً مقياس غير دقيق، فكما أنّ القصة أنواع وموضوعات وطبقات، فكذلك شأن الشعر، ففيه أزجال جنسية ورديئة يحفظها العوام ويردّدونها، وإذا كانت الخاصة تقرأ الشعر الرفيع وتتذوقه فإنَّها أيضاً تقرأ القصة الرفيعة وتشغف بها، وإذا كان العقاد لا يقرأ القصة إلا مضطراً، فطه والمازني والحكيم وإيزنهاور يقرؤونها بغير اضطرار(24)، أما انتشار القصة فيعزوه محفوظ إلى غير ما يعزوه العقاد، وهو عنده لسهولة العرض والتشويق وما تحتويه من قيم إنسانية ومرونة القصة واتساعها لجميع الأغراض والموضوعات، ومواءمتها لروح العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، وقد وجد العصر بغيته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار فليس ذلك لأنَّه أرقى منها، ولكن لأنَّه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائماً للعصر، فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة(25).‏

ومن تعثّر ولادة مصطلح الرواية ولادة طبيعية وعدم تحديده بدقة هذا الكمّ الهائل من الإنتاج الروائي تأليفاً وترجمة والعصر الطويل، فنحن نُطلق اليوم هذا المصطلح على كل عمل سردي طويل، وفيها أعمال أقرب إلى الحكايات منها إلى الجنس الروائي، كما هي الحالة في الشعر، وينبغي ألا ننسى بأنَّ هذا الجنس قد غدا ملجأ للذين آمنوا بعد محاولات متعثرة في كتابة الشعر بأن لا مكانة لـه م في عالم الشعر، كالمازني مثلاً، فانتقلوا إلى كتابة الرواية، وهم لا يدرون أنَّ لـه ا عناصر فنية وجمالية غير الحكاية، ثمَّ إن بعضهم أراد أن يسجّل سيرة حياته، فكان عمله أقرب إلى التأريخ منه إلى العمل الفنّي، وهو ينقل من الذاكرة أحداثاً وصوراً، ولا يصنع رواية.‏

ثمَّ أننا لا نميّز اليوم بين رواية هي أقرب إلى المحاولات الأولى، كالأعمال التي كتبها سليم البستاني والأرناؤوط وزيدان والكيلاني ممن جاؤوا في المرحلة ما قبل الفنية أو فيما بعدها وبين رواية تتصف بالتركيب والتكامل، كالثلاثية لمحفوظ مثلاً، فضلاً عن أنَّ التقسيم الزمني لفنية الرواية غير علمي ولا هو شامل أو دقيق، فقد ذهب محمد يوسف نجم في كتابه القيّم "القصة في الأدب العربي الحديث" إلى أنَّ ما أُنجز من قصص قبل عام 1914 كان من باب المحاولات أو البدايات، ولذلك ابتدأت الرواية الفنية مع رواية "زينب" 1914، ولكنَّه لم يدّعِ بأنّ الروايات التي أُنجزت بعد هذا التاريخ كانت كلها متكاملة، ولكنَّ بعض النقّاد والدارسين انطلقوا من وجهة نظر إقليمية خالصة، فأرخوا لروايات فنية هنا وهناك متجاهلين ما عند الآخر العربي. وهكذا صار كل ما أنجز فيما بعد 1914 من روايات من قبيل الرواية الفنية، مع أنَّ معظم ما يصدر اليوم تحت مسمَّى الرواية يفتقر إلى الشروط الفنية الأولى لكتابة الرواية، وهي سلامة اللغة.‏

ولابدَّ من أن نذكر هنا قضية هامة تتصل بهذا الجنس الأدبي ومعرفة تسويقه من الإعلام أو المؤلف نفسه، فالشعب العربي يعاني الحرمان والكبت والقهر من محيطه إلى خليجه، ولذلك تسلّل من هذا الباب الواسع كثير من أشباه الروائيين والروائيات، وحصلوا على شهرة سريعة. لم تتوافر أحياناً لكبار الروائيين، فتحدّثت وسائل الإعلام عنهم وعن أعمالهم، فكان الموضوع الروائي بديلاً من الفنية، وانتصر المسكوت عنه، وغاب الفنّ، فتقدّم القول على كيفياته، فالجراءة في الطروحات الجنسية، وخصوصاً إذا كان المؤلف أنثى، أمّنت لأصحابها مجداً في عالم الرواية، ووجدت هذه الأعمال من الإعلاميين والنقاد والسياسيين من يُهلّل ويكبّر لـه ا، فسجلت رقماً قياسياً في المبيعات، وتحدّثت عنها الصحف والمجلات، والتلفاز والإذاعات، والأمثلة على ذلك كثيرة في الرواية العربية والرواية السورية، والجراءة في الطروحات الدينية أمّنت هي الأخرى لأصحابها مجداً آخر، وحدّث ولا حرج عن الطروحات السياسية أو الاجتماعية، وقد تحوّل الروائي بين لحظة عين وأخرى إلى سياسي جهبذ أو مصلح اجتماعي خطير أو خطيب مفوّه في كثير من الأعمال التي حقّقت نجاحاً باهراً، والمسعى أوضح مما يُظن، وهو الشهرة السريعة والكسب المادي. أما التماسك الفني والتشويق من خلال الفنّ وحده فقد غاب غياباً يكاد يكون كلياً عن كثير من هذه الأعمال، ولذلك نحتاج إلى غربلة نقدية صارمة لتمييز الفن من سواه... نحن اليوم بحاجة إلى "غربال" نعيمة و"محك" عبود في هذا الجنس الأدبي الذي تربّع على عرش الأدب العربي الحديث وأصبح "ديوان العرب"، وهذا مما يثبت أنَّ الاتساع في مصطلح الرواية حال مرضية، كما هي الحال في الشعر والقصة القصيرة والمسرحية، فالعناصر الفنية وتكاملها هي التي تمنح العمل الحياة والخلود... أما العزف الاستهلاكي على الحساسية الوقتية فهو ذاهب بذهابها، ولذلك صار لزاماً علينا أن نتوقّف عند هذا المصطلح، كما هو عند الآخر، علماً بأن تحديده لا يعني بحال من الأحوال الوقوف عنده، لأنّ الثبات على حالة واحدة في الأدب لا يعني سوى موتها.‏

ثانياً مصطلح الرواية: إن حصر مصطلح "الرواية" ضمن تعريف ضيّق وجيز عمل إشكالي، وذلك للتطور السريع والمتضارب الذي عرفه ويعرفه هذا الجنس السردي في مدّة قصيرة لا تتجاوز القرنين، فقد احتقر كبار الأدباء في أوروبة هذا الجنس الوليد في القرن الثامن عشر، ولكنّه غدا اليوم الجنس الأدبي الأكثر قراءة وإنتاجاً وانتشاراً ومبيعاً.‏

الرواية (ROMAN) لغة الرومان بوصفها اللغة الدارجة الشعبية، وهي مقابل اللغة اللاتينية لغة العلم والمعارف، وقد تمَّ الانفصال بين اللاتيني والروماني الذي نشأت منه اللغة الفرنسية القديمة في القرن الثامن، ومن هذه الكلمة أخذت الرواية اسمها(26)، والرواية في تعريفاتها الأولية سرد أدبي نثري يستند إلى قواعد محدّدة اتفق عليها النقاد في الغرب، فهي "عمل تخييلي يقدّم شخصيات على أنّها حقيقية"(27)، أو هي "عمل أدبي يُروى حصراً بالنثر، وهو ذو طول كافٍ، ويحرص في السرد على المغامرة، أو دراسة الطبائع أو السمات، أو تحليل الإحساسات والعواطف، والعرض، سواء أكان موضوعيّاً أم ذاتياً، من الواقع"(28).‏

إن مثل هذه التعريفات موجزة، وهي لا تفي الرواية حقّها، فهي كالحياة نشاطاً وتبدّلاً لا تقف عند الحدود، وهي تتجاوز تخومها إلى تخوم أجناس أدبية وفنيّة ومعرفية أخرى، فالرواية، اليوم، تمتد كأذرع الأخطبوط إلى المعارف الإنسانية كافة. إنها جنس أدبي جشع لا يقنع بالقليل، ولا يتوقّف عن الامتداد والتوسع، وهو يحاكي أكبر الغزاة في التاريخ بدءاً من الإسكندر المقدوني وأتيلا الجبار وجنكيزخان وتيمورلنك وهتلر إلى آخر آلية عسكرية عرفها التاريخ البشري، فهي جنس يضم إليه كلّ ما يقع تحت سلطانه، ويستطيع أن يحوّل الأجناس المغلوب على أمرها لخدمته، وأن يوظّفها توظيفاً جديداً لم تكن تعرفه من قبل، ولذلك تختلف الرواية عن الملحمة التي كانت منغلقة على ذاتها وقواعدها، وهي تختلف أيضاً عن حكايات الرومانس التي يعدّها كثير من الدارسين الأب الشرعي للرواية، ونستطيع أن نقول: الرواية المعاصرة تختلف عن السرديات في أدبنا العربي القديم، ولذلك قال أحد دارسيها: "الرواية نوع لا يمكن الإمساك به"(29).‏

صدر التعريف بالرواية في المقبوس الأخير عن معرفة بهذا الجنس والتطور الهائل الذي عرفه، وخصوصاً في القرن العشرين، فقد كان في تغيّر متلاحق، وغدت الرواية عالماً مزدحماً في كتاب موسوعي، أو هو السيل الجارف الذي يأخذ في طريقه كل شيء، ولا يُبقي على حدّ من الحدود، أو كما جاء في وصفه: "إنّ صفة هذا النوع الأدبي (المفتوحة) التي تتيح تحقيق مقايضات متبادلة، واستعداده لأن يهضم، وفق جرعات مختلفة، أكثر العناصر تنافراً ـ محض وثائق، خرافات، تأملات فلسفية، تعاليم أخلاقية، نشيد شعري، أوصاف ـ وبكلمة واحدة خلوّه من الحدود، كلّ هذا يسهم في تأمين النجاح لـه ، إذ أن كلّ شخص ينتهي بأن يجد فيه ما يبحث عنه وما يؤمن لبحثه حياة طويلة. لقد أتاحت مرونته المتناهية أن يتغلّب على جميع الأزمات. وهذه السمات ذاتها تجعل كلّ محاولة لتعريف هذا النوع الأدبي، ضرباً من المغامرة"(30).‏

يتعذّر إذاً على الدارس أن يجد تعريفاً مانعاً جامعاً بسبب هذه التحولات الخطيرة التي تُلْغي كلّ تعريف سابق عليها، فأنت، هنا، إزاء جنس أدبي يتغيّر بين لحظة وأخرى، وقد وصفه أحد الدارسين بقوله: "الرواية، تلك البقعة الإسفنجية"(31)، وهذا يعني أنها ليست على حالة واحدة، وهي مرتهنة بالواقع الذي يحيط بها، فالإسفنجة تمتصّ كل سائل من ماء ودماء ومشروبات وسواها، وتكون بألوان مختلفة، وبأشكال وأحجام مختلفة، وهذه البقعة الإسفنجية صورة عن حقيقة الرواية المعاصرة.‏

قد تنسب الرواية إلى جنس أدبي نبيل، كالملحمة، ومع ذلك مرّت بفترة احتقار، فكانت جنساً أدبياً منحطاً يَزْوَرُّ عنه النقاد، ويخجل أصحابه من نسبته إليهم(32)، ولكنّه استطاع في فترة قصيرة جداً أن يعتلي سدّة العرش الأدبي، ويُمسك كالطاغية الروماني العتيد كل شيء بيديه، فيستبدّ استبداداً ما عرفه كاليغولا ونيرون، فهو فاتح لا يرحم، أو هو كامرأة أحبّت حبّاً جنونياً، فخانها من وهبت عمرها في مرضاته، واحتقرها، ثمّ جاء دورها لتنتقم، فإذا الشعر والنثر يعيشان على الهامش، وكأنهما من رعايا الرواية بعد أن كانت الأخيرة تبحث عن مكان تأوي إليه بين الأجناس الأدبية، أو كما تقول الدكتورة سهير القلماوي: "وإذا الرواية في معركة طويلة تنفض عن نفسها اللعنة إلى أن دخلت باب الفن الرفيع، بل إنها أخذت تنتقم من التاريخ الذي حكم عليها باللعنة والنبذ زماناً فإذا هي تكاد تقهر الأنواع الأدبية كلّها في سوق القارئين"(33).‏

إنّ التطور الهائل الذي عرفته الرواية خلال عمرها القصير جداً إذا قيس بعمر الشعر مثلاً يجعلنا نؤكد أن هذا التطوّر يوازي التطور الذي عرفته البشرية في القرنين الماضيين، أو هو صورة مصغّرة عن ذلك، فالرواية ملتصقة بعالمها من حيث المضمونات والتقانات، وهي تسعى إلى سباق مضموني وفنّي وجمالي مع الزمن، إنّها الحياة نفسها، ولو لم تفعل ذلك لما أصابت كلّ هذا النجاح والانتشار.‏

وقد وسَّع التطور الهائل الهوّة بين الرواية التقليدية المتمسكة بالقواعد والرواية المعاصرة المتحرّرة منها، حتى غدت الأخيرة غريبة عن الأولى، وكأنها ليست ابنتها، ولم تخرج من رحمها، فالرواية تمرّدت على نفسها باستمرار، وقطعت في وقت قصير مسافة أكبر بكثير من المسافات التي قطعتها الأجناس الأدبية الأخرى، لم تنظر إلى الوراء، كما هي حالة الشعر الذي يسير، وهو يحمل على كتفيه إنجازات عشرات القرون التي تشدّه إلى الوراء (الأصالة والتراث)، ولكنّ الرواية المعاصرة تمرّدت على الكتابة الروائية التي سبقتها بعناصرها وبنياتها وأساليبها من خلال محاولات التغريب والتجريب، كان الروائي المعاصر يبحث دائماً عن أشكالٍ وعناصر ولغة جديدة، وظلّ يسعى إلى تحرير النص من القيود النصية التي كبّلته: وحدة الزمن، نمطية الشخصية، وحدة الحدث، الحبكة، وتحرير النص من المذاهب الاجتماعية والأيديولوجية التي أثقلت كاهل الرواية التقليدية، وإذا كانت الرواية التقليدية تنطلق من النموذج إلى النموذج فإنَّ الرواية الجديدة تجريبية، ولذلك فإن شكل الأولى في ثبات وشكل الثانية في تحوّل مستمر، وهذا ما خلصت إليه إحدى الدارسات، فقالت: "وهكذا فإنّ الرواية الحديثة لا قواعد لـه ا ولا وازع، مفتوحة على كل الممكنات، وغير محدّدة من جميع الجوانب إذا صحَّ القول، على خلاف الجنس الروائي التقليدي الذي يتصف بأنه من الانتظام بحيث لا يخضع للأوامر والمحظورات فحسب، بل إنّها هي التي صنعته. وهذا بالتأكيد هو السبب الرئيس لتوسعها المستمر، والسبب الرئيس أيضاً لرواجها في المجتمعات الحديثة التي تشبهها الرواية على الأقل بما تتمتّع به من روح الابتكار وبمزاجها المضطرب وحيويتها"(34).‏

ومع ذلك فإن ما تقدّم لا يعفي الدارس من أن يضع بعض الملامح لتعريف هذا الجنس الأدبي ففي كل جنس ثوابت ومتغيرات، ومن غير المعقول أن تكون الرواية بلا ثوابت أو ركائز، وتظل الثوابت واضحة في تطور هذا الجنس، أما المتغيرات فهي كثيرة ومتحولة ومتبدلة. صحيح أن الرواية ليست موضوعاً أو قصة مغطاة قليلاً أو كثيراً ببعض الملابس، ولا هي حوادث متنوعة جمعت بشكل أو بآخر، وإنما هي عالم متميّز عن العالم الواقعي الذي نعيش فيه، وهي عالم مستقلّ ومعقّد يجب البحث عن معناه من خلال الأشكال التي تؤلفه، وصحيح أيضاً إن الرواية بنت الملحمة مع أنها تختلف عنها اختلافاً جذرياً في أبطالها ولغتها وأشياء كثيرة من ذلك، ولكن من الثوابت في تعريف الرواية، والتي لا تقبل الجدل مهما تتشعّب المنطلقات المنهجية في تعريفها، أنّ الرواية "قبل كل شيء قصة معقّدة غير محتملة الوقوع"(35)، وهي سرد، يسرد فيها الراوي قصة متسلسلة الأحداث زمنياً، وإن كان يحاول التلاعب بالأزمنة والأمكنة من خلال التقطيع السينمائي، ولكنّ السرد متعاقب في مخيلة القارئ منذ البداية حتى نهاية معينة، وتكون خيالية، وهذا ما يميزها من السيرة الذاتية والمؤلفات التاريخية"(36).‏

ويضيف أحد الدارسين في تعريفه للرواية صفة ألحقها بالشكل القصصي، فالرواية عنده شكل قصصي ساخر، وكأنه يشترط عنصر السخرية في هذا الجنس السردي، فيقول: "ولهذا فإنّ الرواية تبدو إثر ذلك شكلاً قصصياً، تحتلّ مكاناً وسطاً بين (الرومانس) غير الساخر وبين الحكاية الفلسفية، وهي الأخرى ساخرة بطرائق وسبل مختلفة عن الرواية غالباً"(37).‏

كانت ولادة الرواية لحاجة فنيّة ماسة في اقترابها عن الحياة أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى التي تقترب من الحياة بخجل وبخوف وحذر، فقد كان الشعر ذا حدود صارمة، وكانت التراجيديا والكوميديا جنسين شعريين على طرفي نقيض، وكأنهما في حرب طاحنة، فالحدود فيما بينهما مغلقة تماماً منذ عصر أرسطو، والاقتراب منها ممنوع وخطر ومزروع بالألغام، ولا يُسمح بالتداخل فيما بينهما لضخامة الحصون ومتانة السدود، ولكلّ منهما أبطال مختلفون عن تلك، ولهذه لغة وأساليب وطبيعة تختلف عن سواها، فلا يجوز ـ مثلاً ـ أن يقف المشاهد في التراجيديا على منظر ساخر، ولا يجوز أن يقف في الكوميديا على منظر جدّي، وكأن الحياة من لون واحد لا يتبدّل، ولذلك حاول شرودر أن يجد في الرواية سخرية وفاجعة معاً، فقال: "أما لماذا تقرب المأساة في الغالب رغم جذورها الضاربة في الملهاة وأدواتها، فلأن موقف آدم يمكن أن يثير ضحك الآلهة ونواح البشر في آن واحد، إذ تزاوج المفارقة الساخرة بعد كل شيء بين الملهاة والمأساة"(38).‏

الرواية إذن قطعة من الحياة الاحتمالية... قطعة من الحياة تحولّت إلى جنس نثري أدبي جميل، يصف الحياة البشرية بشخوصها وأحداثها وصورها الاحتمالية مستخدماً في ذلك جميع التقانات والأساليب التي ورثها من أجداده والتي يصادفها في الحياة والفنون والمعارف والآداب ويهيمن عليها.‏

الرواية نصٌّ أدبي مختلف في أدبيّته، ولذلك هناك رواية إخبارية ورواية أدبية، وعلامات الأولى أنها نصّ عادي، وموضوعها أهمّ من أدبيّتها ومقدّم عليه، أو أنّ الموضوع طاغٍ على الأدبية، فإذا كان النص رواية تاريخية، فهو يحمل من التاريخ أكثر مما يحمل من الأدبية، وكذا شأن الأيديولوجيا أو السياسة والدين أو الواقع الاجتماعي أو النفسي... الخ، ويكون هذا النص شبيهاً بالنظم في العلوم (النحو ـ التاريخ ـ الطبّ...)، وهذا النص عادي لا يحتاج إلا إلى فهم، وهو يقدِّم فائدة علمية، ونطلق عليه مصطلح "رواية إخبارية"، والمعلومة في هذا النص قبل المتعة الأدبية. أما الرواية الأدبية فهي نصّ غير عادي، وهو عالم مختلف وإشكالي، ولا يخلو من الأيديولوجيا والسياسة والدين والدراسة التحليلية للنفسية أو التاريخ أو الواقع الاجتماعي، ولكنّه مستقل عن هذه العلوم، وهو يحوّلها إلى علوم أدبية، فالأيديولوجيا في بنية النص الروائي أيديولوجيا أدبية، وكذا شأن السياسة والتاريخ والواقع الاجتماعي، لأن المصهر الأدبي يُحيل العناصر والمواد الأولية التي ينتقيها من الواقع إلى عناصر ومواد أدبية، فهو عالم غنيّ ذو آفاق متسعة وفضاءات متداخلة، ولذلك يحتاج إلى غير قراءة ويتجدّد بها.‏

الرواية أولاً وأخيراً نصٌّ أدبي مفتوح، أو هي عالم خاصّ ومستقل... الرواية أخيراً مرآة مختلفة عن أي مرآة أخرى، ولذلك أنت ترى نفسك فيها مختلفاً حين تنظر في مرآة أخرى.. كلّ رواية مختلفة عن الأخرى... ولكلّ رواية عالمها واستقلالها وطبيعتها وكينونتها وما يميّزها من سواها... ومن هنا سرّ نجاح هذا الجنس وانتشاره: التنوّع والحركة.‏

الهوامش:‏

1 ـ ينظر: النقاش، مارون: أرزة لبنان، المطبعة العمومية في بيروت، 1869م، ص108.‏

2 ـ ينظر: القباني، أبو خليل: مسرحياته (ضمن كتاب ـ المسرح العربي ـ دراسات ونصوص)، الشيخ أبو خليل القباني، دار الثقافة، بيروت، 1963م، والموسى، د. خليل: المسرحية في الأدب العربي الحديث، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1997م، ص ص18-20.‏

3 ـ حنين، إدوار: شوقي على المسرح، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1936م، ص39،‏

4 ـ المرجع السابق، ص39.‏

5 ـ المرجع السابق، ص40.‏

6 ـ المرجع السابق، ص50.‏

7 ـ ينظر: الموسى، د. خليل: المسرحية في الأدب العربي الحديث، ص43.‏

8 ـ الخالدي، روحي: تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو، الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، دمشق، ط4، 1984م، ص278.‏

9 ـ نظرية الرواية (إعداد محمد كامل الخطيب)، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1990م، ص33.‏

10 ـ المرجع السابق، ص44.‏

11 ـ المرجع السابق، ص19.‏

12 ـ المرجع السابق، ص29.‏

13 ـ المرجع السابق، ص20.‏

14 ـ المرجع السابق، ص ص21-22.‏

15 ـ المرجع السابق، ص21.‏

16 ـ المرجع السابق، ص147.‏

17 ـ المرجع السابق، ص ص148-149.‏

18 ـ المرجع السابق، ص149.‏

19 ـ المرجع السابق، ص149.‏

20 ـ ينظر: الموسى، د. خليل: وحدة القصيدة في النقد العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1994م، ص ص75-99.‏

21 ـ نظرية الرواية: ص ص152-153، وقد نشر العماري مقالته في مجلة "الرسالة"، العدد 663، س12، آب 1945م، ص906.‏

22 ـ المرجع السابق، ص162.‏

23 ـ المرجع السابق، ص163.‏

24 ـ المرجع السابق، ص165.‏

25 ـ المرجع السابق، ص166.‏

26 ـ ينظر: بورنوف، رولان وأونيليه، ريال: عالم الرواية، تر. نهاد التكرلي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991م، ص5.‏

27 ـ MICRO Robert, langue Française plus, Paris, 1988 (Roman).‏

28 ـ le Petit Larousse - grand format, Larousse- Bordas, 1988, P.898.‏

29 ـ بورنوف وأونيليه: عالم الرواية، ص21.‏

30 ـ المرجع السابق، ص21.‏

31 ـ فورستر، إ.م: أركان الرواية، تر. موسى عاصي، جروس برس، طرابلس (لبنان)، ط1، 1994م، ص22.‏

32 ـ ينظر: روبير، مارت: رواية الأصول وأصول الرواية، تر. وجيه أسعد، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1987م، ص60 وما بعدها، ونحن نفسّر من هذا الباب ما قام به محمد حسين هيكل من إخفاء اسمه عن رواية "زينب" في طبعتها الأولى.‏

33 ـ اتجاهات جديدة في الرواية الأوروبية، مجلة (القصة)، س1، ع2، فبراير، 1964م، ص100.‏

34 ـ روبير، مارت: رواية الأصول وأصول الرواية، ص64.‏

35 ـ بورنوف وأونيليه: عالم الرواية، ص5.‏

36 ـ المرجع السابق، ص22.‏

37 ـ شرودر، مورس: نظرية الرواية، تر. د. محسن جاسم الموسوي، منشورات مكتبة التحرير، بغداد، 1986م، ص21.‏

38 ـ المرجع السابق، ص ص27-28.

نتمنى للجميع الاستفادة والاطلاع
مع كل الود

هيثم عساف
 

ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الـمـصـباح .. مـجلـة نـوافـــــــــــــذ ثـقـافـيـة :: دروب أدبـيــة :: > مراجعات و دراسات أدبية-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
» شنطة سفر
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالأحد أبريل 17, 2016 10:04 pm من طرف للنشر

» ومازلتُ أُكابر
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالأحد أبريل 17, 2016 9:24 pm من طرف للنشر

» خطوة إلى الوراء
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالأحد أبريل 17, 2016 5:02 pm من طرف للنشر

» أنا والستارة الخجولة/ الشاعرة ميسا العباس
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالسبت مايو 23, 2015 12:50 pm من طرف للنشر

» الراهبة / مختار سعيدي
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالسبت مايو 23, 2015 12:42 pm من طرف للنشر

» حلم كأنت/ ميساء البشيتي
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالسبت مايو 23, 2015 12:38 pm من طرف للنشر

» هل أسري أو عرج برسول قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالجمعة مايو 22, 2015 2:53 pm من طرف اسكن عيونى

» الذئاب /حنان علي
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالجمعة مايو 22, 2015 12:46 pm من طرف للنشر

»  نحو نقد ادبي موضوعي /د انور غني الموسوي
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالجمعة مايو 22, 2015 12:14 pm من طرف للنشر

» ما المشاهد التي تستفيد منها الأمة في رحلة الإسراء
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالثلاثاء مايو 12, 2015 5:15 am من طرف اسكن عيونى

» تجليات المعراج
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالسبت مايو 02, 2015 9:55 am من طرف اسكن عيونى

» سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالأربعاء أبريل 29, 2015 8:36 pm من طرف اسكن عيونى

» ديوان عنترة بن شداد ? - 22 ق. هـ / ? - 601 م
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالثلاثاء أبريل 28, 2015 5:02 am من طرف للنشر

» قراءةٌ في رواية ديبورا ليفي (السّباحة إلى المنزل)
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالإثنين أبريل 27, 2015 11:20 pm من طرف للنشر

» ابو بدر ياسين حيدر في الميدان يرحب بكم
ملامح من الرواية العربية في سورية/ دراسة /د.خليل موسى  I_icon_minitimeالإثنين أبريل 27, 2015 11:00 pm من طرف للنشر

المواضيع الأكثر شعبية
عرض كتاب الأسلوب والأسلوبية للمسدي / هدى قزع
شعر النقد الاجتماعي في العصر العباسي /هدى قزع
المنهج الجمالي عند الغرب/هدى قزع
قصيدة ابن الرومي في رثاء مدينة البصرة
عرض كتاب الأسطورة في الشعر العربي الحديث
مفهوم الأدب عند الجاحظ في كتابه البيان والتبيين
الأدب المقارن /هدى قزع
آخر ما توصل إليه العلم في نيل السعادة
شفرة دافينشي" تفضح اسرار لوحة "العشاء الاخير
كتاب العربية نحو توصيف جديد في ضوء اللسانيات الحاسوبية / تأليف:أ.د.نهادالموسى
مواضيع مماثلة
    المواضيع الأكثر نشاطاً
    ديوان عنترة بن شداد ? - 22 ق. هـ / ? - 601 م
    موسوعة محمود درويش
    رســــــــــــــــائل حب إلهيه
    خلف النافذة الرمادية/ حسين خلف موسى
    يسألوني عن وجعي وأنت وجعي
    آخر ما توصل إليه العلم في نيل السعادة
    قصيدة بعنوان بئسَ الهوى
    قصيدتي الجديدة بعنوان: عرّابي
    ألعبد سعيد
    ميـــ ــلاد
    المتواجدون الآن ؟
    ككل هناك 6 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 6 زائر

    لا أحد

    أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 121 بتاريخ الأربعاء يوليو 05, 2023 11:33 pm