'السيدة من تل أبيب' لربعي المدهون
نادية عيلبوني
قليلة هي الأعمال الأدبية التي نجحت في الإفلات من قيود ما اصطلح على اعتباره، في ستينات وسبعينات القرن الماضي، 'أدبا ملتزما'، أملته ظروف الكفاح الوطني الاستثنائية التي أشاعت أجواء سياسية ومفاهيم أجبرت الأدب، قسرا، على تغيير مساراته الإبداعية، وفرضت وصاية على استقلاله كفن لا يقبل الشراكة أو التعدي على خصوصياته الجمالية وأدواته الإبداعية. غير أن عددا محدودا من الشعراء والكتاب الفلسطينيين، تمكن من الإفلات من قبضة تلك الوصاية، خصوصا في العقد الأخير، الذي شهد تخففا تدريجيا من القيود وخروجا ملحوظا، وإن على استحياء، من تحت عباءة الأيديولوجيا.بهذا المعنى، تنتمي رواية ربعي المدهون، 'السيدة من تل أبيب'، الصادرة أخيرا عن 'المؤسسة العربية للدراسات والنشر' في بيروت (328 صفحة من القطع المتوسط)، إلى جديد الأدب الفلسطيني وجديد الرواية أيضا، من حيث الشكل المتمرد على الكلاسيكي والسائد، وعلى صعيد المضمون المتجاوز لمألوف الرواية الفلسطينية. ولا يعود ذلك برأيي، إلى نجاح المدهون في تقديم صورة أخرى مغايرة للفلسطيني الذي جرى تنميطه على مدى عقود وحسب، بل وفي إلقائه حزمة ضوء على الجزء المنهوب من فردانية الفلسطيني المستلبة، والتي جرت التضحية بها لصالح ما عرف بالهم الجمعي.
بطل الرواية وليد دهمان، كاتب فلسطيني يعيش في لندن، يكتب رواية بطلها فلسطيني آخر (عادل البشيتي) يعيش في فرانكفورت بألمانيا، قرر العودة إلى قطاع غزة، في أعقاب زواج فاشل من ألمانية استمر عشر سنوات انتهت بالطلاق، كي يبحث عن فتاة أحبها قبل ثلاثين عاما.
يقع وليد أسير حكايته، فيقرر بدوره زيارة والدته التي لم يلتقها منذ ما يقارب الأربعة عقود، وتتبع رحلة بطله عادل، خالقا بذلك مسارا لرواية أخرى، تتقاطع عبره أشكال السرد، ويتعدد فيه الرواة، مثلما تتقاطع تفاعلات الواقع والمتخيل.
في الطائرة التي تأخذه إلى تل أبيب، يتعرف وليد إلى ممثلة اسرائيلية (دانا أهوفا)، وينفتح السرد على مسار درامي ثالث، يكشف عن حكاية حب تربط الإسرائيلية الشابة بابن زعيم عربي كبير.
بعد عودته إلى لندن يتلقى وليد مكالمة هاتفية من دانا تطلب لقاءه، واعدة إياه بالكشف عن بعض أسرار تلك العلاقة. لكنه يختفي في الطريق إليها.
وليد العائد إلى الوطن بعد غياب طويل، لا يدعي أن عودته نهائية، ولا يفتعل خلالها حنينا إلى مرابع طفولته وتفتح شبابه. كما لا يحاول أيضا، رسم صورة وردية لواقع غزة القديم الذي عرفه قبل الاحتلال، أو للتبدلات التي طرأت عليه في غيابه، بل على العكس من ذلك تماما، يروي حكايته بمشاعر محايدة إلى حد البرود أحيانا. لم يترك وليد العنان لمشاعره تحكم تصرفاته وتقودها، أو تحجب عنه حقيقة ما انتهى إليه الناس وما أصبحت عليه الأمكنة، إذ يذهب إلى بلده بوعي آخر مختلف، خال تماما من أي نسيج وهمي حولها، وعي يعبر عن نفسه في حواره مع ذاته ومع الآخرين، بمن فيهم الإسرائيلي، حيث تتبدى ملامح ما استجد من نضج على رؤى ومفاهيم الفلسطيني كفرد، وعي يضعه على مسافة كبيرة من الخطاب السياسي، من دون أن يخفي جراحاته العميقة التي تتفتح فجأة ومرة واحدة، كاشفة عن ألم وجودي ربما يتجاوز المأساة الفلسطينية ذاتها عمقا. في مونولوغ داخلي مكثف يسبق إقلاع الطائرة من مطار هيثرو، حيث يتلاحق قلق وليد مما قد يطرحه وجود جار إسرائيلي إلى جانبه من احتمالات، يحاور البطل ذاته ويستجوبها: 'لكني لن أكون قادرا على الاعتذار من جار قد يطرح السؤال الأصعب: من أين أنت؟ وأنا لم أفكر، حتى اللحظة على الأقل، كيف أرد على السؤال. يعاودني قلق أصعب من القلق: حقا من أين أنا؟'.
لقد استوقفني هذا السؤال تحديدا، إذ بدا كما لو كان غائبا في حياة الراوي الماضية، وعاد ليقلق حياته في لحظة اصطدامه بالإسرائيلي الذي حدد هويته وانتماءه على أساس محو هوية الآخر ـ الفلسطيني.
من بين محطات كثيرة تسترعي الانتباه وتثير الاهتمام في رواية المدهون، اختياره الطائرة مكانا تنفتح فيه شبابيك الذاكرة. فبطله يبدأ في سرد حكايته فور إقلاع الطائرة. فما مغزى اختيار الفضاء مكانا تجري فيه أحداث تقع في قلب الرواية تماما، وتشكل نبضها القوي؟ هل هو فقدان الفلسطيني لثقته في الأرض التي 'خذلته'؟ أم هي دلالات رمزية على حاجته إلى أن يتذكر ويروي بعيدا عن عالم الأرض المنضبط لإيقاعات سياسية قاسية لا تعرف الرحمة؟.
وقائع ما يجري في الطائرة، بين وليد الفلسطيني ودانا الإسرائيلية، تؤكد أهمية هذا الاختيار لبنية الرواية، حيث يجري ربط حكايتين رئيسيتين تشدان متنها: حكاية وليد دهمان وحكاية دانا أهوفا التي احتاجت إلى الفضاء الفسيح نفسه، لكن لتحاكم ذاتها بعيدا عن القيم المزيفة والادعاءات التي يفرضها منتصر على نفسه وعلى الآخرين. منتصر تمكن من الاستحواذ على المكان، لكنه لم ينجح في اجتياز الممرات الإنسانية الإجبارية لحياة عادية بسيطة. فدانا تفشل في الاحتفاظ بحبيبها العربي. تعيش فصول حكايتها كلها في العتمة كي لا يحاكمه مجتمعه هو على علاقة محرمة، ولا يحاكمها مجتمعها هي بدوره على ما يعتبره خيانة. دانا الإسرائيلية المنتصرة، تفقد القدرة على التماهي مع البطل المتفوق المتمتع بنشوة الانتصار على ضحيته. دانا كانت تعبيرا قاسيا، لكنه حقيقي، عن خراب الروح.
أكثر من نهاية مفتوحة تستوقفنا في 'السيدة من تل ابيب': سقوط دانا أهوفا من شرفة على الطابق السادس في بناية، كما يخبرنا وليد. ثم اختفاء وليد نفسه في طريقه إلى لقاء دانا، كما يخبرنا الراوي، الذي يبعد من طريقنا احتمالات موتها، لكنه يعود ويخبرنا لاحقا، بأنهما 'لم يلتقيا ذلك المساء'، تاركا لنا تساؤلات أخرى تفضي إلى غموض آخر: هل ماتت دانا فعلا، أم ذهبت إلى موعدها وانتظرت وليد الذي لم يحضر؟. من نصدق: الرواي أم وليد؟. ثم ما المعاني الكامنة وراء هذه النهايات؟ هل كان موت دانا تعبيرا مجازيا عن موت ضمير منتصر يصر على المضي في تجاهل إنسانية الآخر مثلا؟. أم هو إشارة إلى استحالة المصالحة بين طرفين متصارعين مات ضمير المنتصر بينهما؟.
في 'السيدة من تل أبيب' شخصيات عدة تتحرك في فضاء عمل روائي معقد ومركب، وجديد يحتمل الكثير من التأويل ويحتاج المزيد من الدراسة أيضا. من بين تلك الشخصيات، 'عادل البشيتي' نموذج آخر لفلسطيني آخر عاد إلى الوطن بحثا عن ذاته وانتمائه من خلال البحث عن حبيبة ضيعتها الغربة والمنافي. ومثل روايته المتعددة النهايات، ترك لنا الكاتب الباب مفتوحا على شتى الاحتمالات، ودفعنا إلى التساؤل عما إذا كان عادل قد عثر على نصفه الضائع.
في 'السيدة من تل ابيب'، يتوقف القارئ طويلا عند الفصول الأخيرة للرواية، حيث ينجح الكاتب، بشكل لافت، في تقديم عرض تفصيلي حي للواقع في قطاع غزة من كل جوانبه، وللتغيرات العميقة التي طرأت على المجتمع بعد اتفاق أوسلو، وحال الفساد التي استتبعت مجيء السلطة، ونجاح الإسلاميين في العقد الأخير، في الإجهاز على روح المدنية ومظاهر الحضارة في غزة، وسيادة القيم العائلية والعشائرية. نتعرف على ذلك كله من خلال ما يدور من أحاديث وحوارات كثيرة، تجري تحت مظلة سريالية تطغى عليها كوميديا سوداء تعيدنا إلى أجواء المبدع الراحل اميل حبيبي الروائية. 'السيدة من تل ابيب'، لم تنجح في تلخيص واقع الفلسطينيين وحسب، بل وأوضحت أيضا، وإلى حد كبير، فلسفتهم ورؤاهم وهمومهم وتطلعاتهم .
تتركنا 'السيدة من تل أبيب' أمام مشاعر كثيرة مختلطة، ومفارقات أكثر هي من سمات حياة الفلسطيني، سواء ذاك الذي بقي في أرضه، أو الذي ابتعد عن جغرافية الألم. فالروح المصابة والمجروحة في الحالتين، تظل تقفز من بين السطور والكلمات، لتثير في النفس مشاعر تتوزع بين التعاطف والحزن والغضب والألم.
الرواية تقدمت خطوات كبيرة بابتعادها عن تنميط صورة الفلسطيني، والأهم من ذلك، عن صورة الفلسطيني الضحية غير المسؤول عن أفعاله، فقدمته على حقيقته من دون ابتذال أو مبالغة أو شطط.
'السيدة من تل أبيب' من الروايات الفلسطينية النادرة التي تترك قارئها أمام أسئلة كثيرة كبيرة وعميقة، سبق وأن طمست تحت فيض من الشعارات.
رواية مثيرة تستحق الاهتمام، وهي جديرة بأن تقرأ بكل عناية.
' كاتبة فلسطينية مقيمة في فيينا