هي الموسيقى أنوار مضيئة في بساتين الأرواح. تتماوج على ألحانها الملائكة
والشياطين والجنيات والجان. والبيانو، إمبراطور الآلات العازفة، يعرف عازفه
الماهر أن عالم الموسيقى بلا حدود ولا نهائيات. وماهر حشيشو، الصيداوي
اللبناني المولود عام (1969) في ألمانيا (كولونيا) واحد من أساتذة العزف
على البيانو. درس العزف على البيانو وعلوم الموسيقى في معهد تشايكوفسكي في
موسكو من عام 1989 حتى عام 1997. عزف في حفلات موسيقية في روسيا وايطاليا
وفرنسا وألمانيا واليابان والأردن وقطر ولبنان والدانمرك. وهو حالياً أستاذ
للعزف على البيانو في الكونسرفاتوار اللبناني في بيروت منذ خمس سنوات.
مساء
أول أمس، أحيا حشيشو أمسية مميزة بنخبوية الجمهور في مسرح بيار أبو خاطر ـ
طريق الشام ـ جامعة القديس يوسف مستحضراً لنا تشايكوفسكي في (Grande
sonnate op 37) بحركاتها الأربع، ورخمانينوف في تنويعات رقمها op 42. امام
عزفه الباهر الماهر لتشايكوفسكي، انتابتنا نوستالجيا تاريخية. لكن
الهارمونية الموسيقية عند رخمانينوف أكثر غنى من سوناتا تشايكوفسكي. تشعر
كأن ثمة ملائكة وأرواحاً اثيرية غريبة في موسيقى الاثنين رخمانينوف
وتشايكوفسكي. السوناتا عند الثاني حركاتها طويلة، بينما التنويعات عند
رخمانينوف قصيرة فيها مزيد من التناقضات. لذا، تحركت أنامل حشيشو برشاقة
أكثر عند رخمانينوف. موضوع التنويعات تعود أصوله إلى ألحان ايطالية غير
معروفة المصدر.
لا يقدم رخمانينوف في تنويعاته طلاقاً خلعياً مع
تشايكوفسكي. انه استمرار المسيرة الميلودية الرومنسية، لكن بقدرة على
التواصل بين الجديد والقديم. استمر رخمانينوف حاملاً تقنيات تشايكوفسكي في
العزف على البيانو. لكن أنغام التنويعة تمد التواصل إلى حداثة القرن
العشرين في بداياتها. طبعا هناك سر كامن في رومانسية تشايكوفسكي الانفعالية
العاطفية التي عزفها حشيشو، بإتقان ومتانة جعلتنا نندمج فيها أكثر من
اندماجنا برخمانينوف. ربما لأن رومانسية القرن التاسع عشر الحساسة والمرهفة
والجياشة بالعواطف والانفعالات وصلت إلى ذروتها عند تشايكوفسكي متفاعلة مع
الرومنسية الموسيقية الألمانية. في ألحان رخمانينوف استمرار للّمسية بمزيد
من البرودة العقلانية ذات الحسابات المنطقية بتداعياتها التي ضبطت فوران
المشاعر. لكن الاضطرام الانفعالي عند تشايكوفسكي الذي يؤجج المعقولات
المنطقية الموسيقية باللمسات العاطفية هو سر الجاذبية الرائعة للموسيقى
الرومنسية عند تشايكوفسكي.
عزف حشيشو متين وقوي ومتماسك لا تعوزه
الرشاقة أبداً. الحنان والمعاناة يمتزجان معا ويتدفقان في جسد الميلوديات
التي تتشكل رويداً رويداً أو فجأة. وتلح ضربات القدر والمصير في نهايات
السوناتا op 37 لتؤكد حضور المأساة. مأساة الحياة بصعوباتها الإنسانية، في
الحركات عند تشايكوفسكي انتقالات إلى ذكريات جميلة مغرقة في ماضي الحياة
الرومنسية. الشباب بكل مواهبه ومباهجه ودعاباته وحكاياته الطريفة أو
السعيدة يحملها لنا حشيشو إلى مصالحة نغمية مع الميلوديا الأساسية، مصالحة
الكهولة مع خطايا الشباب ومصالحة الشباب مع خطايا الطفولة، في لجوء هارموني
إلى حضن الأمومة المتسامحة، عند رخمانينوف وتشايكوفسكي، انه حضن الطبيعة،
بساتينها وغاباتها وأحراجها وشطآنها.
انه، عند الاثنين، التساؤل عن سر
ما في الحياة من أحزان وأفراح. عالم سحري يبتسم أحياناً ويغضب أحيانا، عالم
يتموج فيه الماوراء والماقبل بالمابعد. ويمتزج فيه المحسوس باللامحسوس.
هكذا تسرح الكائنات تحت أنامل حشيشو في هارمونية الحياة التي لا تعرف
التراجع أو النكوص. وينطلق السحر العزفي انطلاق الفولغا العظيم جنوباً في
اتجاه مصبه في البحر الأسود.
أمسية نادرة تلك التي أحياها هذا العازف
المجيد للبيانو، في عملين موسيقيين صعبين لا يدرك ولا يتذوق أسرارهما إلا
خبراء الموسيقى المميزون.
صفوان حيدر