عبّاس سليمان
قصص كالروايات أو قصص كان ومازال يمكن أن تكون روايات طويلة، بعضها حلّق في أجواء أزمنة بعيدة كادت تنسى وبعضها نبع من الآن وهنا ثم توقّع أزمنة قادمة.
٭ ٭ ٭
قصص امتزجت فيها لغة القرآن وتعابيره وكلام عامي يطرق آذاننا كل يوم وأسلوب الكاتب وتعامله المخصوص مع اللغة.
قصص أخذتنا من أزمان ألف ليلة وليلة إلى سنوات بداية الحياة بمناجم الفسفاط إلى أعوام هذه الألفية الثالثة.
من الجمل سفينة الصحراء إلى التاكسي إلى القطار وعرباته العادية والممتازة. من شهرزاد إلى أحلام مستغانمي ومن القرآن إلى ألف ليلة وليلة إلى الخبز المرّ إلى وراء السراب إلى الأمثلة الشعبية إلى الكلام العامي.
من عربية فصحى إلى عربية غير فصحى إلى عربية أخرى مازالت تنتظر تصنيفا يلائمها.
من حكايات تقدّم نفسها بنفسها دونما حاجة إلى وسيط حتى ولو كان هذا الوسيط كلاما من جنسها أي أخ من لحم ودم إلى حكايات أخرى تتوسل لدى القارئ بأطر وفواتح ومقدّمات.
من الحكي بأسلوب السخرية غلى الحكي بالتزام الحياد إلى الحكي بإظهار الجدّ والصرامة... من الوصف إلى السرد إلى الحوار إلى الحوار الواصف إلى وصف الحوار إلى سرد الوصف إلى وصف السرد إلى وصف السارد..
من سارد مكتف بالسرد إلى سارد يخرج من نفسه وعليها ليتدخل ـ بدعوى التوضيح وبقصد الإرباك ـ في ثنايا الكلام فيلبس على قارئه بذلك التماهي الفجئي الأمر ويضطرّه إلى أن ينساب كليا نحو توضيحات راويه وأن لا يشقى في البحث عن ثنايا التأويل إلى سارد لا يجد حرجا في أن يشهر بنفسه الأمّارة بالنرجسية والمتعالية على القارئ نفسه.
من تقنيات القصّ المتعارف عليها إلى خدع السينما إلى مسرحة السّرد والحوارات إلى تقنيات أخرى هي لإبراهيم مخصوصة لا نكاد نجدها عند غيره من الكتّاب.
من سارد يخاطب قارئه إلى سارد يجرّد من نفسه مسرودا له ويتوجه له بالخطاب إلى سارد يعرض عن القرّاء وعن نفسه مفضلا مخاطبة شخصيات من التي بنى بها نصّه إلى سارد يبدو أحيانا كأنه لا يخاطب أحدا ولا حتى نفسه.
من نصوص يضعها الكاتب بين يدي القارئ ويمضي إلى نصوص أخرى يختلق فيها الكاتب أزمة ثقة مع السارد ويحول فيها بين القارئ والنصّ بتدخله بين الحين والحين وإعادة صياغة الكلام صياغة أخرى وذلك بدعوى التفسير والتوضيح متهما سارده بالتعتيم على القارئ وعدم احترام ما بينه وبينه من مواثيق ائتمانية.
من حكايات تبدأ ببداياتها متدرّجة بالقارئ شيئا نحو خواتم مرتقبة إلى أخرى تطلّ علينا من نهاياتها متدرّجة تدرّجا رجعيا أو راجعا نحو بداياتها إلى أخرى تعاكسنا فلا تأتينا على أي من النحوين سالفي الذكر إنما تطل علينا من بطونها ثم تعود إلى البدايات أو تمضي نحو الخواتم.
من سائق التاكسي وحرفائه المختلفين إلى راكب عربة الدرجة الممتازة ورفيقته في قطار ليليّ بطيء إلى مغن ليس كبقية المغنّين إلى مجنون لا يتميّز عنه العاقلون إلا بجنونهم إلى عامل متعلق بالحكايا الطريفة إلى حلم بالثراء وبالربح هوى عندما أصبح صرحا..
من متعة اللغة إلى متعة الطرافة إلى متعة الشخصيات إلى متعة الزمن المختلف إلى سحر الأمكنة إلى إمتاع فني شامل متحقّق عبر النصوص في تفاصيلها وفي شموليتها.
لعل الإمتاع في «منازل الكلام» كامن في أن الأقصوصات الحائزة على قدر من مقوّمات الرواية قد نأت عن النمطية وعن تكرار نفسها وتكرار القصص الأخرى وعن الدوران في أماكن متماثلة وبين جدران زمن واحد... متعتها تكمن في هذا التنويع الذي مسّ اللغة فجعلها تعدد مصادرها وتبحث عن التجدّد وعن الخصوصية ومسّ المكان فعدده وأخرجه من مستقرّه المعتاد في غالب الأقاصيص وحطه في التاكسي المتجوّل عبر شوارع العاصمة تونس وفي القطار القاطع طول البلاد وفي غرفة من غرف محل الهاتف العمومي وفي صندوق البريد الالكتروني ثم مسّ الزمن فاستحضره حينا من بطون الكتب القديمة ومن رؤوس الحكّائين وجعله حينا آخر حاضرا يجري مجرى كتابة الأحداث. ثم إنه جعله حينا بطيئا بطء الحياة حين لم يكن للسرعة ولا للتسرّع داع ولا سبب وجعله حينا آخر سريعا سرعة التاكسي وسرعة الهواتف وسرعة البريد الالكتروني حين أصبح معنى الزمن مرادفا للسرعة والتسرّع واللهاث.
تلك هي قصص «منازل الكلام» لصاحبها إبراهيم درغوثي الذي يبدو انه افتكّ نفسه أو افتكّ قلمه حينا من الكتابة من الرواية ليعود ولو إلى حين إلى جنس انطلاقته الأولى.
قصص قد تكون قالت انه قد يذهب كل شيء... يذهب القطار ويتفرّق ركّابه ويذهب التاكسي ويذوب من امتطوه في الزحامات ويذهب عناء المغنّي وصولات المجنون والحلم بالثراء... يذهب كل شيء وتبقى الأقاصيص والحكايات، وتبقى للكلام منازل في القلوب وفي الذاكرة وفي الكتب.
يذهب كل شيء ويبقى الأدب.
ألم تر كيف في «متاهات» (ص93) تبخّر الحلم بالثراء وبقي نصّ الحلم؟
٭ مجموعة قصصية ـ دار إشراق للنشر ـ تونس 2009