في البدء كان المثقف وفي الختام كانت نهايته/ هدى قزع:
لماذا نكتب اليوم ولمن؟ وهل بقي للكتابة معنى في زمن اللامعنى الذي أرادته الحداثة ؟ ألا يمكن الحديث عن الموت التدريجي للمثقف؟ وما هي درجة حضوره في إعادة تشكيل وبناء الوعي الجماهيري اليوم؟ وهل يُمَكنه برجه العاجي من الاضطلاع بدوره الحضاري في التنمية البشرية؟ ألم يغدو المثقف، اليوم، شيئا من الماضي؟
كثيرا ما تنقدح على الكاتب أسئلة من هذا الحجم متعلقة بالوعي الجمعي ضمن الإطار المرجعي الذي ينتمي إليه، باعتباره إما مثقفا عضويا أو مثقفا تقليديا ، وهذه الأسئلة نفسها غالبا ما تلج عالم اللاوعي، وتصبح من صميم تشكل الذات الكاتبة والقارئة في الآن نفسه، مما قد يخلق "وعيا مخالفًا" للكاتب تجاه العالم والأشياء بكل مظاهرها الأيديولوجية والثقافية والسياسية.
والوعي المخالف هو بالضرورة محصلة تناقض أنطولوجي بين ما تؤمن به الذات وما تنطوي عليه إكراهات الواقع، فتجد الكاتب بين الأمرين يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
لقد بات الوعي المخالف ظاهرة تطال كثيرا من "المثقفين" سواء منهم الواعين بعظمها أم الذين لا يكترثون لذلك.
ومن طبيعة هذا الوعي المخالف أنه يدفع صاحبه إلى الانطواء بدلا من الانخراط في هموم المجتمع، ما دام يؤمن بخَرَسه وصَمَمِه، ويغدو رومانسيا يستلذ بالهروب من الواقع الحقيقي إلى آخر يصنعه من خلال ذاته المنفصمة .
ومن هنا لم يكن غريبا أن يتساءل جم غفير من الكتاب المشهورين عن دور الكتابة في زمن الحداثة، مع قيمتهم العلمية في مجتمع المعرفة، ودورهم الفاعل في النقد ، و قد كان تساؤلهم تأسيسا لوضع جديد لمفهوم "المثقف" بالنسبة للمجتمعات التي تطلب التحديث، ولم تدخل بعد في الحداثة بَلْه ما بعد الحداثة.
إن المثقف ابتداء يلازمه الوعي المخالف ؛ فهو يهَدم لأجل البناء الحسن، ويرمم الاعوجاج السياسي من خلال وعيه بأمور السياسة والثقافة معا، مما يجعله محركا أساسيا في التنمية المستدامة وفاعلا فيها لا منفعلا، قادرا على التغيير نحو الأفضل.
وعادة ما يقتضي الإطار المرجعي لمفهوم المثقف بجعل الثقافي معارضا ومناوئا للسياسي ومبينا لعثراته ونزواته وتسلطه، مما يجعلنا في حيرة ونحن ننعت كثيرا منا بهذه السمة، في وقت أصبح فيه القول ليس بأيدي "المثقفين".
لقد بات المثقف شيئا من الماضي فاقدا لهويته وخصوصيته، حيث يذوب في السياسي، ويمسي تابعا لا متبوعا، سامعا لا قائلا، منقودا لا منتقدا، غافلا لا مبينا؛ لقد سُيِسَتِ الثقافة وابْتُلعت باعتبارها سلطوية.
إن ما ذكرته يجعلني أعيد النظر في مفهوم المثقف، مادام لم يعد ضمن النخبة التي بيدها الحل في زمن التخلي الثقافي وزمن التجلي السياسي، الذي ولى دهره للدور التاريخي الذي كان يلعبه المثقف في حضارة الكلمة وبناء الفكر وتلاقحه؛ حيث إن إنتاج الفكر الذي كان يميز المثقف عن غيره لم يعد اليوم رئيسا، ما دامت ( تعددية الوسائط) الحديثة تسمح بترويج الأفكار بين الجماهير بعيدا عن النخبة وسلطتها في إنتاج الأفكار وترويجها، إننا اليوم بالتأكيد نعيش عالم نهاية النماذج، بما فيها نموذج المثقف.
لذلك، لم يعد للمثقف ما يثبت به وجوده باعتباره ذاتا مفكرة سوى قلمه، ينزوي به في برجه العاجي ليخط كلمات لا يقرؤها إلا النزر اليسير من أفراد المجتمع في زمن تخلى عن سلطة الكتابة، و لم يعد ينظر إلى "الكاتب" فيه بعده رأس النخبة المشكلة للوعي الجماهيري، وجزءا مهما منها في تحقيق الوعي الجمعي التي تشكل بدورها أساس التنشئة الاجتماعية التي تصبو إلى التأسيس وإعادة التأسيس للذاتين الفردية والجماعية معا.
لذلك يحلو لي أن أتحدث في زمن طلب التحديث أو الحداثة أو لأقل زماننا عن نهاية الكاتب المثقف .
____________________
البريد الإلكتروني للمرسل:
h@yahoo.com____________________
للنشر
مدير التحرير