عمل
القاص عبد الرحيم مؤذن في مجموعته " حذاء بثلاث أرجل " على الاشتغال على
سؤال القصة القصيرة ، وماهيتها ومفاهيمها ، انطلاقا من خلق حوار بينها وبين
أجناس أخرى في صورة عائلة مكونة من الأم والجدة والجارة والأب ..سؤال بقدر
ما أرق الطفلة المدللة بطلة النص أرق السارد . بتركه أسئلة مفتوحة على
بياض كالجرح للقارئ .
في
حين كانت إثارة الواقع الاجتماعي داخل المجموعة محط انتقاد سلس وجه
للمنظومة الاجتماعية والأخلاقية ، و شكل إدانة واضحة للواقع الأسري بسبب
التفكك كما تم تضمين اللغة العامية المغربية بنوع من التجريب السلس . ما
حولها إلى لغة استطاعت في بعض الأحيان فرض وجودها بحيث لا نشعر بكونها
هجينة .
لقد تم الاشتغال على الفضاء بما يحويه من أمكنة أثيرة تمت
إعادة تشيدها وفق بناء رام الحفاظ على عدم هيمنتها ، وهو توظيف كان الهدف
من ورائه إقامة مقارنة بين زمنين ( الماضي والحاضر ) ضمن استرجاع للحظات
الطفولة أو من خلال حوار بين أكثر من نص ( أثناء الحديث عن مدينة القنيطرة )
كما ركز الكاتب على واقع فئات طال أفرادها التهميش ، وأطفال يعيشون في
وضعيات أبرزت نوعا من العزلة والقهر ، ضمن محاولة لإبراز تحولات المجتمع
ومواكبته للتقدم كخروج المرأة إلى العمل وغياب الزوج ..وهي تحولات بقدر ما
طالت المجال والنفسية تشكلت فيها عقليات محدودة وغير مواكبة .كما لمسنا
توظيف الحكاية والقصة البوليسية وتقنيات الرصد السينمائي المفعم بالإثارة
والتشويق .
فما هي مرتكزات هذه المجموعة وبأية خلفية فنية وإبداعية كتبت ؟
1) القصة القصيرة بين المفهوم النظري والنص القصصي
يمكن اعتبار مجموعة حذاء بثلاث أرجل من أجمل المجاميع القصصية المغربية
التي عملت على الربط بين التنظير للقصة وأسئلتها الراهنة من خلال مجموعة من
النصوص " قصة قصيرة " ص 7 و"فراشات سوداء وبيضاء " ص 25 " و "من قتل
الشيخة " ص 47 و العجوز والطريق " ص 52 . ففي النص الأول " قصه قصيرة "
نلمس طرح سؤال محوري حول ماهية القصة القصيرة وعلاقتها ببقية الأجناس
الأخرى ، في محاولة لتحديد بعض مقوماتها وأركانها وأسسها ارتكازا على
الأنسنة بتحويل القصة طفلة صغيرة سيقابلها داخل النص شخوصا آخرين ( الجدة /
الرواية ، الأم / القصة الكلاسيكية ، والجارة / القصيدة ، وهو ما سنلمسه
من خلال الحوار. فالغيرة من الجارة ذات الشعر الطويل الذي يقارب السقف...و
ما طرحه مفهومها سيحدد بالانتماء " الحليب هو الحليب ..الحكمة هي الحكمة " ص
9
فالقصر الذي يميز القصة القصيرة ، سيتحدد انطلاقا من اصطدامها داخل
حيزها الضيق وهي تحاول اختراقه نحو أفق آخر " اصطدم رأسها ببلاط السيراميك
الذي شغل نصف الصفحة .حاولت تحريك رأسها في كل الاتجاهات ، فاصطدمت بعلبة
كارتونية تشهر زيتا يقاوم الكولسترول " ص 10 ، وهو ما سيدفعها إلى العودة
إلى وضعها الأول بعد الاحساس بالغثيان دلالة على الالم والقلق ، وشعورها
بإحساس مقيت يعيدها بعد كل محاولة إلى وضعها الاعتباري . وستكتشف أن مجالها
بقدر ما يرتكز على الوصف والرصد الخاطف لمؤثثات المكان يحيطها دون إطناب .
يقول السارد " تناهى إلى سمعها نداء الأم لتناول طعام الفطور ، بعد أن
انتهت ...من صب آ خر قطرة من القهوة السوداء ,وبلغ إلى سمعها ..الرنة
الصامتة لحبات مسبحة الجدة ..وصوص العصفور(و) مواء القط (و) صوت المذياع " ص
15 وهي إشارات دالة بقوة على ارتكازها على الوصف غير المبرح ومؤثثات أمكنة
محدودة مجالا ، ما سيدفع بها للتساؤل عن حدود اشتغالها وبالتالي البحث عن
آفاق أخرى من خلال تساؤلها الملغم " هل أنا قصيرة ، أم ؟ " ص
إن الحذف
في النص يظل ذاته سؤالا عنيفا من أسئلة القصة ضمن هدير أسئلة أخرى غير
متوقعة تكشف عن فهم الذات ( القصة لذاتها) ، وحدود اشتغالها وممكنات
كتابتها وتوظيفها كذلك .
في حين سنلمس في نص " فراشات سوداء وبيضاء " ص
25 الاجابة عن ممكنات اشتغال القصة من خلال رصدها للواقع الاجتماعي
والسياسي بالمغرب عبر اللجوء إلى الترميز كوسيلة لإبراز اختلال رهيب ومناخ
سياسي مأزوم بين اليمين واليسار .
فالارتكاز على الايحاء والترميز بقدر
ما فتح النص على الواقع السياسي العصيب بالمغرب عمل على تقديم صوره
القاتمة يقول السارد " كان الفصل ربيعا ، والفراشة تتجول في السوق بسلتها
الأنيقة وأسعار الزهور في هذا الفصل في متناول الجميع . فالزهور في كل مكان
حتى في الزنازين ومراكز الشرطة ومعازل المجانين " ص 25 .
إن مكونات
النص بقدر ما انفتحت في اشتغالها على السخرية بدلالتها العميقة ستعمل على
نقل التوتر الداخلي لبطل النص " الرسام " من خلال تجسيدها على لوحة تشكيلية
لحركاته المجنونة والباطشة ، يعيد ترتيب فضاء النص بشكل مزاجي . يقول
السارد " وأخذ يمررها عند الأفق يمينا ويسارا ، ثم يسارا ويمينا ..أظلم
الجو وغابت الفراشة البيضاء في السواد " ص 25
ولعل الحوار الصامت في
النص بين الرسام والفراشة سيبرز غبنا كبيرا ، وإحساسا بالقهر ، وبالتالي
النظرة الدونية للبسطاء . وهو ما سيدفع بالفراشة للحديث بلسان الآخرين من
خلال ردها على استيهامات الفنان وجنونه واصفا غيه " بأعلى مراحل العثة
والجنون " ص 27 وضع سيجسده " شخص " الطفل / البراءة ،كرمز لجيل سيدفع الثمن
في أزمنة القهر من خلال إنشاده الذي سيتحول لانكسار رهيب . في البستان زهر
جميل ..عليه الفراش يلهو ويطير " ص 27 ، سيتحول لكابوس من خلال توليد لغة
التذمر والرفض والقهر وانتقاد الواقع كما في المقطع التالي . " وعند
اقترابه من مدخل المدرسة ، فرمل أمام كومة قمامة ، لم تكن موجودة البارحة
..وأخذت كلمات الغنية تتراجع إلى الوراء " ص 27
فالقصة في هذه
المجموعة ستشيد معالمها وستبحث عن هويتها وممكنات كتابتها الجديدة انطلاقا
من الانفتاح على تقنيات ومواضيع أخرى ، أكثر إثارة ومفعمة بالأسئلة المريرة
، اسئلة مرحلة جسدت مخاضا صعبا ، وبالتالي انقلابا سواء في المنظور إلى
الواقع أو إلى الحلم ذاته ، لتتحول القصة إلى قصة رمادية تتعقب المقصي
والمهمش والمنبوذ والمثير ...
في نص " من قتل الشيخة ؟ " ص 47 مثلا
سنلمس بدء من العتبة محاولة لتطوير موضوع القصة من خلال الاشتغال داخل
عيارها ربما ثأترا بالقصة الغربية لكن منظورها وروحها ورؤيتها اتشحت بميسم
محلي فالعتبة تفتح النص على سؤال مزلزل منذ البداية ، سؤال بقدر ما يضعنا
داخل أحداث جريمة قتل غامضة على إيقاع حوار بين محقق ومساعده ، وتأويلاتهما
وفرضياتهما حول الحادث يضع القارئ على سكتة كتابة جديدة وعلى مسار اعتمد
تقنيات سينمائية ،( فلاش باك ..التركيز على القرائن ..استقراء لمسرح
الجريمة ..التكهنات ...النفي والإثبات ..وهو ما ولد متعة وخلق تشويقا
وفضولا كبيرا .
وإلى جانب توظيف تقنيات الكتابة السينمائية والقراءة
بالعين (تحويل المنطوق لصور عبر الوصف ) واعتماد كتابة حوارية ( حوارات
قصيرة ) سنلمس محاولة لإبراز هوية القصة وجنسها وانتماؤها لشجرة الأب "
كقصة " تعتمد تقنيات وقدرة هائلة على رصد م ملامح الشخوص الهامشية أو
المنبوذة داخل حيزها الفضائي سواء المغلق أو المفتوح ستتحول معه الشخصية (
المهشمة ) إلى إيقونة محورية ، كما بدا في نص " العجوز والطريق " ص 53 من
خلال نقل حركاتها وسكناتها وهي تلوح للسيارات العابرة أو المتوقفة بجانبها
راصدة متغيرات عالم بوثيرة سريعة ..في مقابل الشخصية المحورية الثابتة بشكل
مقرف في مكانها ..هذا التشييد التقابلي منح النص نفسا أخر وفتح القصة
ذاتها نزوحا نحو تأويل متعدد .
وبغض النظر عن هذا التشييد اللافت نلمس
أن النص عمل على انتقاد وضع اجتماعي مشوب باللامبالاة تجاه كبار السن من
جهة ولأوضاع المدنية المعاصرة التي انتقدت بقوة وتم فضحها ووضعها داخل قفص
اتهام رمزي .تعبيرا عن موت القيم وإنسانية الانسان .
2) ملامح المكان داخل القصة القصيرة (نص " ويكا " أنموذجا )
تتجلى ملامح المكان بجلاء في نص " ويكا " ص 43 سواء من خلال المقارنة بين
الماضي والحاضر بالعودة إلى الطفولة أو من خلال ابراز التحول والمسخ الذي
طرأ عليه .
"ويكا " كلمة بقدر ما هي صيحة لبائع " جبان كول وبان "
ستكون نداء سحريا للتحول إلى زمن ولى عمل من خلاله الكاتب على إعادة رسم
ملامح المكان وتأثيثه بأحداث شيد معالمها انطلاقا من الذاكرة .
ولعل
عملية الاسترجاع بقدر ما ساعدت على القبض على لحظات منفلتة لطفولة أثيرة من
خلال إشارات نذكر منها " سينما الرياض / الصحن القصديري المزلج بمربعات
حمراء وخضراء / السراويل القصيرة ، روائح القهوة " ص 44 سنلمس أنه تشييد
مقارن للمكان بين الماضي والحاضر وضد ما طاله من تغييرات وتعديلات لم ترق
السارد أو بطل النص يقول " ارتفع البيت طبقة . تركته في الطبقة الثانية
وهاهي الثالثة تناطح السحاب . لم يلحم الطابقين فبدت مثل شرخ لم يبرأ كسره ،
ولكنه جبر مرات ومرات " ص 45
فالنص بقدر ما اعتمد على تقنية
الاسترجاع عمل على نثر ملامح من السيرة الذاتية ورصد معالم المكان المكان
بموازاة مع التحولات التي طالت شخوص النص كذلك يقول السارد " قال : كان ذلك
في . الستين " ص 46 ومن خلال ما برز من من أثر على نفسية المخاطب " صديق
السارد " إذ داك رفت عيناه بكلام كظيم ، انسكب دمعا مدرار ، ويده لا تكف عن
رسم اثار عجلة داهبة " ص 46 .في إشارة لزمن هارب .
فالاشتغال على
المكان يوازيه في نص " قراءات قصصية " ص 19 الاشتغال على المجال ، من خلال
ابراز تحولات مدينة القنيطرة " المدينة اتي " استعصت عن الحرف الأول .لا هي
بمدينة ..الشروق الدائم ..( فاس) ولا هي بأنغام وتر " غرناطة " ص 19
كما عمل على الانفتاح على الرصد المجالي للمدينة بشكل بانو رامي ، على
إقامة مقارنة بين القنيطرة وبين مدن أخرى . فالتحولات كانت سريعة لم
توازيها تحولات على مستوى عقلية ساكنتها التي ظلت كما هي موغلة في التخلف
ليتحول الرصد من الوصف إلى السخرية يقول السارد " الجالس الأول : مدينة
الألف شهيد .وهذه المدينة...أجاب الجالس الثاني : ألم تسمع عن مدينة الألف
..شاعر ؟ .." ص 22
فالتشييد هنا سيبرز مفارقة سرعان ما ستشمل المجال
وتحولاته الرهيبة " أنظر إلى الخبازات ..الم تكن إلى عهد قريب بحيرة الصمت ،
والطيور النادرة ؟ " ص 22 سؤال يضمر إجابة حول واقع بائس " ذهب زمن الماء
وجاء زمن الأسمنت ص 23
سنلمس أن فضاء النص سيضمن محاورات لنصوص أو
مواقف كتاب آخرين " ابراهيم أصلان ، نجيب محفوظ ، جرجي زيدان " مع تضمين
لشذرات من عناوين بعض أعمال الراحل محمد زفزاف بثقل دلالتها ك " الأفعى
والبحر " / والثعلب الذي يظهر ويختفي " فالحديث عن المدينة هو حديث جاء
بدروه هامشيا ضمن حوار على الهامش مع صاحب الحانوت والبطل يستفسر عن " علبة
السردين الشهيرة " ص 29
إن الحديث عن المكان في بعض نصوص المجموعة
يبرز رصد تحولات الواقع المعاش كذلك كما هو الأمر في نص " حمير جدتي " ص 29
حيث سيتم رصد تحولات المكان وتخلف العقلية ضمن قالب جديد من خلال توظيف
الحكاية الشعبية على لسان الجدة وسيتحول السارد لشخص مشارك في كل أطوار
اللعبة السردية من خلال تقمص شخص الحكاء الماهر الذي يسرد تفاصيل عديدة
مستقاة من الواقع المعاش بمركزة النص حول حشرة " صغيرة " فاللعب على توظيف
المعنى العامي للدلالة على البطء ضمن سياق لعبة الميتاسرد سيجعله يمتح من
المتن الشعبي أزهى مظاهره بل سيضاهيه إلى حدود قصوى لاستنبات الحكاية ضمن
تربة القص الجديدة ، كاشفا عن تردي الخدمات بالمدينة وعدم فعاليتها
بالمقارنة مع اعتماد الجدة على امكانياتها الذاتية وحميرها نكاية في صخب
الواقع وعدم جدوى التقدم المحفوف بالخلل في كل مظاهره ..يقول السارد " مرت (
الجدة ) بتوقف الحافلة ..تم انقطعت عدادات الكهرباء والماء ..توقفت سيارة
الاسعاف ..كان بيتها مضاء في الوقت الذي ساد فيه الظلام المدينة ..." ص 33
فالنص بقدر ما ينفتح على أسئلة متعددة يضع التطور المجالي محط تساؤل مرير
كما يحور مفهوم "حمير جدة " إلى مفهوم ملتبس لم يستطع السارد نفسه تحديد
هويته وهو ما حدا به إلى طرحه في نهاية النص كسؤال مفتوح على الاكتشاف
لشريحة القراء " هل تعرفون أنتم ذلك ؟ أنا لا أعرف شكله أو فصله بعت حماري "
ص 34
3) صورة المهمش
قاربت نصوص المجموعة الوضع الاجتماعي ،
وتقدم صورة عن نماذج مهمشة ،ويمكن أن ندرج في هذا الصدد " حذاء بثلاث أرجل "
ص 35 و"كاتب عمومي " ص 13 وهما نصان عملا على رصد مظاهر الواقع الاجتماعي
وترديه من جهة وتقديم صورة عن القيم من جهة ثانية , ففي النص الأول نلمس أن
منطق الغرابة يتجلى انطلاقا من عتبة العنوان الذي يضعنا داخل متاهة اولى ،
وبالتالي نوع العلاقة المنسوجة بين الحذاء وصاحبه ، علاقة حميمة دامت أمدا
طويلا مع ما شابها من قلق وإعجاب . فالنص يطرح إشكال تقاعد الموظف البسيط
وما يتسبب فيه من خلل وأثار نفسية تصل أحيانا حد الهلوسة جراء الفراغ
المفاجئ ليظل الحذاء الشاهد الوحيد على جنون صاحبه يقول السارد " كأنه صنع
لرجلي هاتين ..الحذاء مثل القبر ..الحذاء يعرفني وأنا في يومي الأول من
التقاعد ..كأنه ولد معي ..أو لعلني منه ولدت ..(35) " يكفي أن ألف اللفة
الأخيرة من أحد السيرين فيطير بي نحو المكان المعلوم ..إنه يعرف الطريق " ص
36 ، ما يحوله لحذاء عجيب .
إن هذه القرائن تجعل علاقة البطل بالحذاء
علاقة أكثر من حميمة ، إلى حد صارفيه الحذاء جزء منه باعتباره يعيش في عزلة
( لم يتزوج ) فالواقع السردي يبرز حالة انشطارية لبطل مقهور ، كما أنا
حالة تفرض التساؤل حول ملازمة الحذاء لصاحبه لمدة أربعين سنة كدلالة عن وضع
إنسان بقدر ما ارتبط بأشيائه توهم أنه حذاء لحذائه الرجل هو الحذاء
..لا..لا ..الحذاء هو الرجل ..أنا المسمى " ص 37 إن تكرار لازمة الحديث عن
الماهية والعتبة تضعنا أمام بطل انشطاري بامتياز يعيش في ظل قوقعة من الوهم
في ظل تحول الأشياء من حوله ليظل متمركزا حول ذاته وأشيائه الخاصة وهو ما
لمسناه من خلال العديد من المفارقات داخل النص " لا هو بالحي ولا هو بالميت
" ص 36 وهي نافذة ستمكن الكاتب من فتح كوة كالجرح للحديث عن الواقع
الاجتماعي لفئة من المسحوقين من خلال زاوية محددة فالالتقاط ( من الأعلى
نحو الأسفل ، ونحو الحذاء تحديدا ) مع كل ما يحيط به يقول السارد " فالعيون
كلها مصوبة نحو الحذاء لا يهم ..الخطوة الأولى هي الأهم " ص 37
إن
زاوية الرصد من الأعلى نحو الأسفل بقدر ما تدل على ضعف تبرز انسحاقا طال
المتقاعد الذي ظل أسيرا لوضعه لا يستمد القوة سوى من حذائه كرمز لكينونته
وسببا حقيقيا لوجوده ، وضع يجد امتداده لدى فئات آخرى من المسحوقين كماسح
الأحذية من خلال رصد حركاته وهو ينتقل لحذاء زبون آخر " لم ينس اللعين وهو
يتحرك في اتجاه احد الزبناء ، كشط مقدمة الحذاء بنعله الحامل لكل قاذورات
الأرض " ص 37
ويتم انتقاد الوضع الاجتماعي بشدة من خلال نص " كاتب
عمومي " س 13 الذي جاءت على لسانه العديد من الانتقادات الضمنية للواقع ،
من رشوة وفساد وغلاء المعيشة مبرزا واقع العدالة بالبلاد والصعوبات التي
تقف عائقا أمام كل مطالب في الحصول على حقه بسبب نظام بيروقراطي وهو ما
أبرز انهزاما بغيضا وتحولا في طرق المراوغة للحصول على الحقوق المشروعة
أصلا " الله يرحمنا ، لولا القهوجي لما وصلت عند ..الشاوش ، ولولا الشاوش
..لما وصلت إلى باب المحكمة " ص 16
في نص " الأوتوروت الثانية " ص 57
ستتم الاشارة إلى التحولات التي عرفتها فترة السبعينيات من القرن الماضي
وقد أبرز السارد تفاوتا طبقيا صارحا حيث يعتبرها ، تحولا نحو تكريس مزيد من
المصالح في يد أقلية على حساب شرائح واسعة من المحرومين ..كما يعري عن
سياسة الوعود والتسويف وما عقبها من إحباط عام وقد لمسنا تضمينا لنص زجلي
ساخر تجلت دلالته في الفضح بلسان الأغلبية المسحوقة يقول "
الأوتوروت لا ميكا لا بوط
غير النشاط والكاسكروط ....وهزان البوط " ص 58
فالطريق السيار بقدر ما اعتبر مشروعا واعدا في نظر البعض ( أصحاب المصالح)
عمق من أوجاع فئات أخرى بتهريب مواردهم القضاء عليها " ضيعوا الذين
والدنيا ..صراعهم على الشبر أو الشبرين والدجاجة أو الدجاجتين ، والقفة ذات
الأذن أو الأذنين " ص 59
هذا المشروع ترك حسب السارد خلافات عديدة
وصراعات ، كما أنه شكل حصارا للعديد من المناطق وعزلها عن بعضها ، وقد أضحت
حاجزا يصعب تجاوزه بسهولة يقول السارد "
نزلت المعبر الأول ، فوجدت
أطفالا معلقين بين السماء والأرض ، قبل الذهاب إلى المدرسة التي أصبحت أثر
بعد عين " ص 59 ، ناهيك عما تسببت فيه من مآسي وأحزان بسبب حوادث السير .
4) صورة الطفل في المجموعة
تبرز صورة الطفل في نصوص المجموعة ، كطفولة مقهورة ومحرومة من كل اهتمام
جدير بها ، صور لأطفال تتقاطع رغباتهم واستياؤهم بسب ما عرفته البلاد من
تحولات في بنيتها ونسيجها ، في واقع سياسي بغيض ، وظروف إقليمية متوترة جدا
. في نص " رغبات المستمعين " ص 9 حيث تتعارض رغبة الأب في الاستماع إلى
الأخبار في المذياع مع رغبة ابنته في الذهاب في نزهة رفقته إلى الحديقة .
وقد شيد التعارض في النص بمفارقاته الساخرة حد تكدير صفو يوم العيد . لقد
خلف هذا الأمر تعارضا رغبتين يحاول طرفيها الاصرار على تنفيذها وهو ما ابرز
عنفا في حق كل منهما ، وإحساسا بالغبن ترجمته بالنسبة للأب " الحرمان من
معرفة تفاصيل الحرب المستعرة في المشرق العربي ) وبالنسبة للابنة الحرمان
من النزهة والإفطار الجماعي يوم العيد .
فمشاهد المأساة نقلها السارد
بشكل متواز بتفاصيلها التي كانت عبارة عن تمثلات في ذهن البطل عن أوضاع
الحرب وتقاطعه معها عبر مطاردة محطات إذاعية متمنعة تبرز حربا نفسية أحرى ،
إلى جانب الجبهة المفتوحة مع الابنة في البيت وهو ما حول كلمات أغنية مطرب
العيد نفسها بسبب تقطعها إلى كلمات فاقدة لمعنى الفرح " قنابل ...وقذائف
..قناصل ..وقنافذ .وقواعد " ص 41 .
فالنص بقدر ما يجسد انكسار الطفولة
يبرز الواقع العربي وانكساراته المريرة داخليا ويجسد تفككا وعنفا وغياب
التواصل والرأفة والحب والسعادة ، وهي أمور تجسدت بسخرية بسبب عنف مصادر
للفرح وللرغبات الأنية والواقعية بالبحث عن تحقيق رغبات أخرى .
أما في
نص " واحد اثنان " ص 55 سنلمس نوعا من اللعب على الثنائيات الضدية التي
بقدر ما نفحت النص بنفحة تجريبية عملت على خلق تشييد خاص أبرز عزلة الطفل
المحفوف بالكثير من مباهج الحياة والألعاب ، وبالتالي حرمانه من العطف
والحب والحنان والاهتمام حتى وهو رفقة مربيته الشاردة الذهن العابسة
والهائمة في عالمها الخاص . فالنص يعكس حياة رتيبة في محيطه في ظل انتظار
وعزلة دلالة على العيش داخل قوقعة من الوهم والانتظار والتمزق والتيه .
لقد استطاع القاص عبد الرحيم مؤذن من خلال هذه المجموعة رسم آفاق القصة
القصيرة بالمغرب في ظل التحولات الكبرى ضمن اشتغال داخل القالب القصصي
ومعياره ، ومن خلال تجريب مارسه كاختلاف حاول من خلاله وضع أسس لنظرة جديدة
بأدوات ومعايير ناتجة عن تفاعلات مستمدة من واقع معاش ضخت دينامكية ،
وخلقت توترا في الكثير من نصوص المجموعة . فطرح أسئلة القصة القصيرة ،
وآفاقها الممكنة نازحا بها نحو التطوير مانحا إياها رمزية ووجودا ضدا على
الاغتراب والرفض وهو يعيد بناء الواقع في سيولة وحركية انسيابية هدف من
خلالها خلق تواصل مع شريحة واسعة من القراء . فالمجموعة عملت على تفجير
اللغة والبحث عن بدائل جديدة ومد جسور التواصل ارتكازا على معايير أبرزت
أصالة عمله وتجدره في تربة القص وتحقيقه لنقلة نوعية كذلك .
ـــــــــــــــــــــــــ بقلم حميد ركاطة
عبد الرحيم المؤذن " حذاء بثلاث أرجل " دار سعد الورزازي الطبعة الأولى 2006 المغرب