الدرس
أيقظت زوجها في آخر الليل، فاستيقظ مذعورا ً وهو يفيق من الحلم، فسألها:
ـ ما الذي حدث..؟
ـ اسمع حركة ولغطا ً أمام بيتنا.
تناول عصاه وصعد إلى السطح فرأى ثلاثة رجال ملثمين وهم يحاولون ان يخلعوا باب الدار، فصرخ بهم:
ـ من انتم، وماذا تريدون..؟
ـ انزل من السطح وافتح لنا الباب، وإلا كسرناه وقتلناك.
ـ لماذا كل هذا التهديد الذي لا مبرر له..؟
ـ من قال لك لا مبرر له ..؟
حمل صخرة ثقيلة وألقى بها على رأس كبيرهم فأراده قتيلا ً، فحملوه ووضعوه بعيدا ً عن البيت، ثم عادوا وقالوا له:
ـ الآن، حل عليك القتل، سنأخذ بثار زعيمنا!
ـ ولكن لدي ّ الكثير من الصخور المميتة.
ـ افتح لنا الباب قبل ان يبزغ الفجر وإلا ..
ـ أريد ان اعرف السبب أولا ً.
ـ الم تسرق عروسنا في ليلة زفافها أيها الذميم؟
ـ ان زوجتي هي ابنة عمي، ولم اخطفها من أي عريس آخر.
ـ اذا ً اخرج إلينا قبل ان تحدث الكارثة.
ـ ما تطلبونه هو المستحيل.
ـ سنأخذها بالرغم منك ومنها، بل سنأخذ راسك معها.
ـ انصرفوا قبل ان اقرب أجلكم.
ـ بل سيكون موتك على أيدينا.
ألقى عليهما شبكة الصيد الكبيرة وسحب الحبل ومكثا يتخبطان بداخلها ولا يعرفان كيف يتخلصان منها بعد ان ضغطت على جسديهما. فقال لهم:
ـ يا له من صيد ثمين.
ـ أخرجنا من حبال هذه الشبكة يا أحمق.
ـ ليس الآن..، سأرفعها عنكما عندما يتجمع أبناء القرية في الصباح!
ـ لقد عفونا عنك يا رجل، فارفع الشباك عنا.
ـ خذوا راحتكم بداخلها.
أشرقت الشمس وتجمع الناس حول الشباك، فنزل الرجل من السطح وخرج إليهم، وقال للناس:
ـ ما رأيكم بهذا الصيد الثمين..؟
ـ ما ذنبهما..؟
ـ جاءوا في آخر الليل ليخطفوا زوجتي.
ـ لماذا ..؟
ـ يدعون أنها عروسهم وأنا الذي خطفها منهم.
ـ ما أسوء هذا الفعل الجبان، كيف يخطفون زوجتك وهي ابنة عمك وقد حضرنا حفلة زفافكما قبل أكثر من سنة..؟
ـ هو ذا مصيرهما ..
ـ شيخ القبيلة هو الذي سيحكم عليهما، فهما يستحقان القتل.
ونظر الرجل إلى زوجته وقال لها:
ـ لن يخطفك احد وأنا على قيد الحياة!
ـ حقا ً أنا سعيدة بحبك لي من ناحية، ولأنك تحبني ثانيا ً، فانا لن انسى الدرس!
لا ثالث لهما!
كان
أديبا ً كبيرا ً له مؤلفاته القيمة التي عالج من خلالها قضايا إنسانية
واجتماعية ولمع اسمه في الوسط الأدبي، واتسعت مساحة شهرته لغزارة عطائه
الفكري، إلا انه كان لا يعتني بهندامه، ولا بمظهره العام، ويبدو للآخرين
وكأنه لا يمتلك غير البدلة التي يرتديها جراء إهماله، فكانوا ينادونه باسمه
المجرد ويبخلون عليه بكلمة (أستاذ) على سبيل المثال.
كانت زوجته تلح
عليه دائما ً ان يعتني بمظهره وان يغير من ملابسه بين حين وآخر، إلا انه لم
يكن يعيرها أهمية رغم هذا الإلحاح المتواصل. وفي ذات يوم خرجت معه لزيارة
الأقارب فسمعت بعض المارة وان احدهم راح يخاطب صديقه وهو يشير إلى زوجها:
ـ هذا نجم، فانا قرأت له بالأمس احد مؤلفاته.
ـ لا أصدق.
ـ لماذا ..؟
ـ مظهره لا يدل على انه نجم الكاتب!
تألمت زوجته، وأجبرت زوجها على العودة إلى البيت، فسألها:
ـ لماذا هذا الموقف، وتغير رأيك ..؟
ـ سأقول لك ذلك في البيت.
عند وصولهما إلى البيت قالت له بشيء من الحدة:
ـ ادخل إلى غرفتك واخلع بدلتك هذه التي ترتديها منذ أكثر من شهر، والبس أجمل ما لديك من البدلات الأنيقة.
ـ لكنني متعب يا عزيزتي.
ـ لا .. بل أنت مهمل، وأرجو ان تعتني بمظهرك.
ـ أنا أفضل الجوهر على المظهر.
ـ لا احد يرى الجوهر.
بعد إلحاح من زوجته، دخل إلى غرفته وارتدى أجمل ما لديه من البدلات وخرج معها وهو يقول لها:
ـ والآن ..؟
ـ قف أمام المرآة واعتني بربطة العنق.
ـ ما سر هذا الاهتمام المفاجئ..؟
ـ ستعرفه عندما نخرج إلى الشارع أو عندما نذهب إلى مكان آخر.
خرج
من البيت بمنتهى الأناقة والعطر يفوح من كل جوانبه وقد قرر ان يحضر أمسية
أدبية في بيت احد أصدقائه، يقيمها في مساء كل يوم من ايام الخميس. وحين دخل
قال احدهم لمن يجلس إلى جانبه:
ـ هذا هو الأستاذ الكبير والأديب الشهير نجم!
ـ اسم على مسمى.
ـ فعلا ً، وقد حصل على النجومية عن جدارة واقتدار.
ثم نهض احد الحاضرين وقال:
ـ
أيها الأخوة الأعزاء من الأدباء وعشاق الأدب، يسعدنا ويشرفنا حضور النجم
الساطع، الأديب الكبير، والمفكر الشهير، الأستاذ نجم، فأهلا ً وسهلا ً به
متمنين ان يتفضل علينا بقبس من أفكاره المضيئة.
صفق الجميع، آنذاك نهض الكاتب نجم وقال بشيء من الحزن والألم:
ـ لن أطيل عليكم، وأقولها باختصار، ان ترحيبكم بي يعود فضله إلى اثنين لا ثالث لهما، وهما زوجتي، ومظهري، وشكرا ً!
ثم خرج من الأمسية متألما ً وترك وراءه دهشة الحاضرين، واستغرابهم. وعند وصوله إلى البيت، قال لزوجته:
ـ شكرا ً لك ِ يا زوجتي ومعلمتي، ولا ادري ماذا أقول ...
ـ قل يا عزيزي..
ـ لقد كان مظهري الأنيق هو الأستاذ والنجم الساطع وليس أنا!
ـ وما هو رأيك الآن ..؟
ـ سيبقى زوجك هو ذلك الرجل الذي لا يتوارى خلف هذه المظاهر!
لا مكان في رأسي للصداع!
نقاش
دائم حول شتى المواضيع ترافقه الانفعالات الحادة التي تصل بهم إلى حافة
الشجار، في بعض الحالات. هم خمسة أصدقاء، لكنهم في خندقين عندما يتناقشون،
أما خامسهم فانه يقف أحيانا ً بصفته يقف على الحياد بينهما.
لم يتفقوا
في يوم من الأيام على رأي واحد، وإنما لكل طرف راية في أي موضوع يطرح على
طاولة النقاش وكأنهم اتفقوا على ان لا يتفقوا حتى اذا كان الموضوع في منتهى
الوضوح ولا يحتاج للمناقشة. أما صديقهم الخامس عبد الله الذي يدعي الحياد،
فقد كان يستمع ولا يتدخل في المناقشة، وسأله احدهم:
ـ أي حياد تدعي؛ الحياد السلبي، أم الحياد الايجابي..؟
ـ بل الحياد الصامت!
ـ تعني الحياد الصامت..؟ فالصمت أمام الحقائق باطل. وقديما ً قالوا: الساكت أمام الحق شيطان اخرس!
ـ بل كلكم شياطين، ونقاشكم باطل كله!
ـ كيف..؟
ـ
كل واحد منكم يدعي الفلسفة والعلم والثقافة، وكلكم تظلمون المواضيع التي
تناقشونها ولا تعطوها حقها، فما يدور بيننا ليس إلا ثرثرة وأراء عشوائية
وانفعالات وعربدة!
ـ ولماذا تلوذ بالصمت ولا تدلي برأيك..؟
ـ يقول المثل: مناقشة الجاهل متعبة.
ـ تعني إننا جهلاء يا أستاذ عبد الله..؟
ـ لأنكم تجهلون حقيقة كل موضوع من موضوعاتكم، وهذا تحريف للحقيقة والواقع.
ـ ولماذا لا تتدخل..؟
ـ أنا لي خندقي الثالث، كأي مستمع بالرغم منه.
نهض
الأستاذ عبد الله وذهب إلى بيته من غير ان يستأذن منهم، فاتخذوا من موقفه
هذا موضوعا ً للمناقشة بين رافض ومؤيد له، وفي البيت سألته زوجته:
ـ ماذا بك يا عبد الله، أراك مكتئبا ً..؟
ـ اشعر بصداع شديد.
ـ هل انفعلت مع أصدقاؤك كالعادة..؟
ـ لقد قررت ان أقاطعهم جميعا ً!
ـ ولماذا ..؟
ـ اذا كان نقاشهم حول صناعة الكراسي مثلاً، تجدينهم يتحدثون عن الصحون الطائرة!
ـ ما علاقة الكراسي بالصحون الطائرة..؟
ـ إنهم يخلطون بين الطين والعسل، ثرثرة بلا حدود.
انقطع عبد الله عنهم فترة طويلة من الزمن، كما قطع علاقته بالنادي الذي يلتقون فيه مساء كل يوم، وفي ذات ليلة زاره احدهم وسأله:
ـ ما هذه القطيعة يا أستاذ عبد الله..؟
ـ أنا بحاجة إلى راحة الأعصاب.
ـ ان الجماعة أرسلوني للاستفسار عن صحتك وطلبوا مني ان تذهب معي إليهم في النادي.
ـ لا تتعب نفسك يا سيد احمد، النقاش الهادئ مع زوجتي أفضل بكثير من مناقشاتهم الصاخبة.
ـ لقد قررنا ان لا نناقش أي موضوع يثير أعصابنا.
ـ وهل مازالت أعصابكم بخير..؟
ـ على أية حال تفضل معي إلى النادي.
ـ بيتي هو النادي المفضل الذي لن أغادره وتحياتي للجماعة.
ذهب
احمد إلى النادي واخبر أصدقاءه بما دار بينه وبين عبد الله، فتألم الجميع
وقرروا ان يزورنه في اقرب يوم. أما الأستاذ عبد الله فكان في حوار مع
زوجته:
ـ ما سبب الخصام الذي حدث بين ابنتك وزوجها وديع..؟
ـ من اجل شيء بسيط لا يستحق الخصام.
ـ مثلا ً ..؟
ـ قدمت له أكلة غير الأكلات التي يفضلها، فغضب وثار عليها.
ـ لهذا السبب فقط..؟
ـ نعم. لهذا السبب ولا من سبب آخر.
ـ سأذهب لهما هذه الليلة وأصالحهما، ولكن كان عليها ان تراعي ذوقه في الطعام وغير الطعام.
ـ اذا ً كان على حق لغضبه ..؟
ـ وهل غضبت عليك ِ أنا في ذات يوم..؟
ـ بالعكس، أنت الزوج الحنون الرقيق النبيل الجميل الطيب الـ ...
وفي ذات يوم زاره أصدقاءه، فرحب بهم وعانقهم بحرارة، وحين الحوا عليه بالذهاب معهم إلى النادي قال لهم:
ـ اعذروني.
ـ لماذا يا أستاذ عبد الله..؟
ـ لا مكان في راسي للصداع!
د. بلقيس الدوسكي
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للموقع، 
الأحد أبريل 17, 2016 10:04 pm من طرف للنشر