هل يحتاج أدونيس إلى التعريف به ؟
إنه الشاعر الكبير علي أحمد سعيد ( أدونيس ) ، وهذا يكفي ، فقيمته الأدبية _ الشعريّة كبيرة ، وحضوره الفكري العاصف كبير _ وهو مثير للجدل ، وهذا شأن الكبار ...
استوقفتني واحدة من مداراته التي يكتبها على صفحات ( الحياة) ، وعنوانها : غاندي ، لا غيفارا ..
قرأت المقالة التي بدأت مثيرة من سطرها الأوّل ( أعجب بشخص غيفارا ، بحضوره الجمالي ، بحبّه للحياة والمرأة ، غير أنني لا أعجب بالطريقة التي اتّبعها في العمل التحرري . )
لن أقوّل أدونيس ما لم يقل ، وبالتأكيد لن ألخبط ما جاء في مقالته ، ولن أجتزئ بما يشوّه ما طرحه ، حرصاً على جديّة محاورته بموضوعيّة .
أسأل أدونيس : أنت معجب بشخص غيفارا ، ولكنّ غيفارا ليس مجرّد شخص ( ما) ، إن غيفارا بلحيته الشهيرة _ وهي ليست رمزاً دينيّاً ، ولكنها تعبير ثوري _ بالبيرية على رأسه ، ببندقيّة ( الكاربين) التي قاتل بها ، وجرح وهو في غمار المعركة ، وأسر وقد تعطّلت ، بعد أن أصيبت برصاصة في ميدان المعركة ، وأشرف مندوبو ال CIA على قتله ، وبتر أصابعه ، وحملها إلى واشنطن للتأكد من أنها لن تضغط على الزناد بعد موته ، وفي هذا الفعل الشنيع تخويف لغيره من الثوريين الذين يسيرون على خطاه .
غيفارا الذي عرفنا فكره ، وتابعنا معاركه ، وقرأنا كتاباته بثوريتها الرومانسيّة ، والذي قاتل مع كاسترو ، دعا لوحدة ( القّارة ) الأمريكيّة اللاتينيّة ، وغادر السلطة في كوبا _ تأمّلوا انتكاسات بعض النماذج الثوريّة في بلاد العرب ، فلسطين خّاصةً ، التي تدوخ شغفاً بالسلطة ، وتتخلّى عن ماضيها ، وأفكارها ، لفرط أنانيتها ووصوليتها وانتهازيتها _ ليفجّر ثورة على أرض ( بوليفيا) التي تحرّرت هذه الأيّام ، وانتخبت (موراليس) الذي أمّم نفطها وغازها ، بطريقة تذكّرنا بتأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس ، ويعمل على إعادة ثرواتها لشعبها المسحوق الذي ضحّى غيفارا لتحريره ، والذي تطّل روحه اليوم في سماء القّارة التي تنفض الهيمنة الإمبرياليّة الأمريكيّة الشمالية عن أجزاء شاسعة منها مبشّرة بانتهاء زمن جمهوريّات الموز وحكّامها العملاء للإمبرياليّة الأمريكيّة اليانكيّة .
غيفارا ليس شخصاً ، فلو كان شخصاً ( ما) ، وسيماً جميلاً لما عرفناه . نحن عرفناه لأنه فكر ، وممارسة ، وسلوك ، لأنه ( روح) إنسانيّة نبيلة ، لأنه تجديد في الفكر الثوري ...
أمّا أنه يحّب الحياة فهذا عائد إلى أنه يحّب الإنسانيّة ويكره الظلم ، ولهذا دعا لتفجير ثلاث فيتنامات في العالم لكنس الاستبداد الإمبريالي الأمريكي ، منادياً بالأخوّة الإنسانيّة ، وبأن يقلق أنين الضحايا وصراخهم راحة جلاّديهم ومستغلّيهم . تعجب به لأنه يحّب المرأة !
غيفارا كان يحّب المرأة لأنه ثائر ، يحترم المرأة ،يعمل على تحريرها ، فجمالها ، وحضورها الإنساني ، لا يتألقان ويتحققان إلاّ بالحريّة .
هناك ثوريون متخلفون تعاملوا مع المرأة كجسد ، كسلعة ، وهؤلاء سقطوا في الميدان لأنهم خانوا المبادئ ، والشعارات ، وكّل ما ادّعوا التضحية لأجله .
لا يكفي أن يكون إنسان ما حاضراً جماليّاً ، ومحبّاً للمرأة حتى يحظى بإعجابنا ، ولذا اسمح لي يا أستاذ أدونيس أن أخبرك بأن ملايين البشر ما زالوا يرفعون صورة غيفارا ، ويمشون تحتها في التظاهرات التي تدين العدوان على ( العراق ) ، وامتهان حقوق شعب فلسطين ، يفعلون هذا لأن غيفارا ثائر ، وليس لوسامته وحبّه للمرأة ( من منّا لا يحّب المرأة يا أدونيس ؟ ولكن ليس كّل محّب للمرأة ( غيفارا) .
تقول : (تحررياً أفضّل غاندي : رؤية ، ومنهجاً ، وممارسة ...)
اسمح لي أن أداعبك قليلاً وأنا أعرف ميلك للفكاهة : هل غيفارا وغاندي طبقان يعرضان عليك لتختار مفاضلاً بينهما ؟ أفضّل غاندي بالميونيز من فضلك ..هكذا تخبر ( النادل) المنحني قليلاً ، والذي سيبادر مع ابتسامة بتناول قائمة الطعام من يدك ، ليعود لك بعد قليل بطبقك المفضّل (غاندي ) مع المقبّلات ...
تحرريّاً أفضّل !
يعني أنت تفضّل أسلوب غاندي السلمي ، لا أسلوب غيفارا العنفي !
هذا حقّك ، ولكنّك كشاعر ومفكّر حر مع الكتابة بكّل الأساليب ، فأنت لا تحصر أي مبدع في أسلوب كتابي بعينه ، وهذا يمكن أن ينطبق على الثورات ، فالشعوب تكتب نصوصها ، ومسيراتها ، بما يناسب طبيعتها ، ومواضيعها ، وأهدافها ، وخبراتها ، وتجاربها ، وهي تطوّر من ( كتابتها) كما يفعل الشعراء ، والمبدعون ، بدليل أنها تتعلّم في ميدان الممارسة ، مستفيدةً من تجاربها ، بما يرتّد نفعاً عليها .
تجربة غاندي نجحت في الهند فقط ، وتجربة غيفارا نجحت في كثير من بلدان وقّارات العالم : في الصين من قبل ، في فياتنام ، في كوبا ، في جنوب لبنان الذي مازال مفتوحاً على احتمالات استئناف المقاومة بالعنف الثوري ( السلاح) ، وفي فلسطين بذل الشعب الفلسطيني الكثير حتى يتخلّص من الانتداب البريطاني ، وها هو يخوض معركته بالسلاح منذ عشرات السنين ، يعني قبل غيفارا ، ثمّ ليدخل في خيار ( السلام ) فيفقد الأرض ، ولا يفوز بالسلام ، حيث هناك من يتحدّث وينظّر للحوار مع ( الآخر) ، وهذا ( الآخر) تسمية تضليليّة للعدو ، الذي هو عدّو لم يأخذ فلسطين ب( الإقناع) و( الجدل) ، ولكن بالقنابل ، والموت ، والإبادة . تقول يا أدونيس : أرفض العنف بأشكاله جميعاً ، مهما كانت أهدافه ، مهما كانت مسوّغاته ، سواء كان فرديّاً أو جماعيّاً .
وأنا في رفض العنف مع اختلاف غير بسيط : ليس بكّل أشكاله ، فأنا _ وهناك من يشاركني_ أرفض العنف بما هو ظلم ، اعتداء على الآخرين وحقوقهم ، وممتلكاتهم ، ولكنني بالتأكيد ، ويشاركني كثيرون ، مع حّق من يقع عليه ظلم أن يدافع عن نفسه ، يعني أن يرّد الظلم وهذا لن يتّم بالإقناع ، فحتى السيّد المسيح بكّل تسامحه اضطّر أن يحمل السوط ويطرد التجّار والسماسرة من ( بيت أبيه ) ، ولست أحسب أنك أكثر تسامحاً من السيّد المسيح ! .
ما أهميّة أن تقول للفلسطينيين مثلاً أنك ضد كل أشكال العنف ؟ ماذا يغيّر هذا في وضعهم ؟ بماذا يسلّحهم فكريّاً ؟ أتراك تقترح عليهم إنجاب غاندي من بينهم ، والسير وراءه مطالبين شارون ، وموفاز ، وبيرس ، وباراك ، ومن قبل بيغن ، وشامير و..بأن يكفّوا عن الاستيلاء على أرضهم ، وقتل أطفالهم ، واقتلاع أشجارهم و..؟ ما فعله غاندي في الهند في وجه بضع عشرات من ألوف الجنود والموظفين الإنكليز ، لا يناسب فلسطين التي فيها استعمار استيطاني ، يقتلع مجتمعاً من أرضه ، ويزرع تجمّعاً يجلب من أطراف الدنيا في مكانه و..بالعنف ، الذي لا يخفى على إنسان عربي بمستواك !
تكتب في مقالتك :
(ثمّ إنني أفضّل ، في كّل عمل تحرري ، أن يشارك الشعب كلّه في النضال ، لا أن يقتصر هذا النضال على مجموعة من الأفراد ، أيّاً كانوا .)
يا ريت يتمكّن كل الشعب من المشاركة في النضال !
هذه تعميمات يا أدونيس العزيز .
تسألني كيف ؟
أنت تطرح فكراً ، والفكر لا قيمة له إن لم يكن مسخرّاً لنفع البشر ، للممارسة ، ليتحوّل من كلام إلى فعل ، وتطبيق ...
أنظر مثلاً لحال الشعب الفلسطيني ، إنه ليس في مكان واحد ، لأنه طرد من أرضه بالعنف العدواني ، واقتلع اقتلاعاً بالطائرات والدبّابات الأمريكيّة ،والبريطانيّة ،والفرنسيّة ،والتشيكيّة ، والألمانية _ هذه جزء من التعويضات التي قدّمتها حكومة المستشار أديناور للحركة الصهيونية ، بالإضافة للميارات من الماركات _ فتشرّد في الأقطار العربيّة المحيطة بفلسطين ، وبقي بعضه تحت الاحتلال ، وتمزّقت أرضه ( محتلة 48 ، قطاع غزّة ، ضفّة غربيّة) ، فبالله عليك ، قل لي كيف سيجتمع ( كّل ) الشعب الفلسطيني ليناضل معاً ؟!
ثمّ : أين في تاريخ البشريّة هبّ شعب دفعة واحدة ، في ساعة ( صفر) شديدة الدقّة ، واتفق بغتةً وبدون تمهيد وإعداد على أهداف ووسائل ، وبرنامج تحرر ؟ حتى الانتفاضات الكبرى ككومونة باريس ما كانت لتحصل لو لم تكن هناك طليعة ثوريّة ، وشرائح اجتماعيّة لها مصلحة في الثورة ، والتغيير ، وإسقاط الباستيل أي باستيل . إنك يا أدونيس تنفي ، أو تقفز على ، الصراعات الاجتماعيّة والطبقيّة ، وتنظّر لمجتمع يتكوّن من ( شريحة ) واحدة ، بمستوى عيش واحد ، بمصلحة واحدة ، وهذا بحسب معرفتنا لم يحدث حتّى في المجتمعات البدائية التي كان أفرادها يحسمون صراعاتهم بقدراتهم الجسديّة ( القوّة ) ، ولتتحوّل ( القوّة ) إلى امتيازات ، وممتلكات ، وهيمنة ، وأتباع ، وظلم يدفع للتمرّد والمقاومة ... (غيفارا : عصبة ، طبقة ، فئة ، طليعة ..الخ، تمارس العنف .
غاندي : الشعب كلّه ، في تنوّع فئاته ووحدتها ، مسلّحاً بالسلام والانفتاح على الآخر .)
ثمّ تصل بعد المقارنة بين غيفارا وغاندي إلى الخلاصة ، والقول الفصل ومع أننا ، ثقافة وممارسة ، أقرب إلى غيفارا منّا إلى غاندي ، فإنني مّمن يقولون : لسنا في حاجة إلى غيفارا ، نحن في حاجة إلى غاندي ...) .
أدونيس يقصدنا نحن العرب ، وبالتحديد عرب فلسطين ، والعراق ، ولبنان ، حيث في هذه الأقطار مقاومة ، وعنف ضد عنف الاحتلال ، والقوى الباغية المعتدية التي تتحدّى كل الشرائع الدوليّة ، وتفبرك الأكاذيب تسويغاً لعدوانيتها.
من العاصمة اللبنانيّة بيروت طردت قوّات الاحتلال ( الإسرائيليّة) بقوّة السلاح ، ولوحقت على أرض الجنوب ، وهربت من صيدا وصور ، ثمّ تحقق الانتصار المؤزّر بقيادة حزب الله في العام 2000 ، وما زالت بعض الأراضي هناك تنتظر التحرير _ مزارع شبعا _ وما زالت الأصابع على الزناد ، فالعدو غالباً يخرج من الباب ليعود من الشبّك بسحنة محليّة ، وبلغة محليّة تتباكى على الوطن ، وياما أجهضت ثورات ، وأفشلت حركات تحرّر بهذه الأساليب ( هل يغيب عن نظرنا ما يجري في فلسطين راهناً ، بعد الانتخابات التشريعيّة التي عصفت بالفساد ، وفضحت مسيرة سلام أوسلو ؟) .
نحن لا نفاضل بين غيفارا وغاندي ، فنحن كعرب بحاجة لكّل أساليب المقاومة للتحرر من الاحتلال ، وأرقاها أسلوب العنف الثوري الذي يعيد صياغة حياة مجتمعاتنا .
أسأل أدونيس : أأنت متأكّد أن ( كّل) الأمّة الهندية سارت وراء غاندي ؟ لا يوجد إجماع في أي بلد ، وأي أمّة ، على أمر واحد . هذا وهم ، أو هو تضليل ليس إلاّ . الهند وهي تستقّل تشققت ، وخرجت منها باكستان ، وغاندي قتله ( هندوسي) متطرّف رافض لإنسانيّة غاندي وتآخيه مع الهنود المسلمين وغيرهم ، وأثناء مسيرة غاندي وجد من يتحالف مع الإنكليز ، ومن يتآمر معهم على بلده ، وأمّته .
نحن لسنا أمام الخيار بين غاندي وغيفارا ، نحن أمام احتلالات تدمّر وطننا العربي ، وتعيده إلى زمن ( الطوائف) ، فهل الاحتلال هذا ( آخر) ؟ هل قوّات بوش وبلير ( آخر) ؟ وهل المجلوبون من أمريكا ، وأوربة ليحتلّوا بيت الفلسطيني وحقله ( آخر) ؟ اسمح لي أن أقول لك بأن العدو شئ و( الآخر) شئ آخر !
العدو هو الذي يحتّل أرضي ، يعتدي على إنسانيتي ، يستولي على بيتي وحقلي ، يشرّدني بالقوّة ، مردداً أن هذه _ فلسطين_ أرض أجداده قبل ألفي سنة ، وأنه ( يعود ) إليها ، ومع ذلك يراد منّي أن أعتبره ( آخر) ، وأن أعتبره ( تقدميّاً ) و( يساريّاً ) إذا ما أبدى شيئاً من الشفقة على أوضاعي ، وصعوبة حياتي المعيشيّة أنا العربي الفلسطيني ، وأن أحاوره ، وأجلس معه فقط لسبب واحد وهو أنه يستقوي بما لدى ( دولته) من أسلحة ، دولته التي ترقد على عشرات الرؤوس النووية ، دولته التي تقوم على وعد إلهي ( ديني) ( أصولي) مغرق في التعصّب ، ذلك الوعد الذي ما كانت له قيمة أو جدوى لولا وعد ( بلفور) والانتداب البريطاني الاستعماري ؟
كيف يكون الحوار ، واللاعنف ، والغاندية مع هؤلاء ؟
ألا ترى كيف يقتلون ، ويجرحون المتظاهرين الفلسطينيين _ ولأجانب المتعاطفين _ سلميّاً ، ويخنقون النساء والأطفال بقنابل الغاز ، علماً أنهم يحتّجون سلميّاً ضد جدار النهب المدان في محكم العدل الدوليّة في ( لاهاي) ؟ ألم يقتلوا الشّابة الأمريكية ( راشيل كوري ) بأنياب الجرّافة وهي تتضامن مع الفلسطينيين ؟ عن أي غاندي يا أدونيس تتحدّث ؟
ثمّ تذهب إلى الهدف من المقالة المكتوبة في هذا الوقت : ( لقد أثبتت التجربة أن مثال غيفارا كان طريقاً ملكيّة لتهديم طاقاتنا ، لتخريب حياتنا ، لتبديد ثرواتنا ، لفشلنا ، ولتشويه وجودنا وحضورنا في العالم .)
ياااااااه ، أكّل هذا جنته علينا الغيفاريّة؟
لأ يا أدونيس : الذين جنوا علينا هم من قسّموا بلادنا ، وأذكّرك بهم : فرنسا وبريطانيا ، ومن بعد أمريكا ، ثمّ الربيبة : ( إسرائيل) ...
والذين جنوا علينا هم من كرّسوا تقسيم بلادنا ، المتحكّمون بشعوبنا العربية المنتميّة لأمة واحدة ، وهؤلاء لهم مصلحة في تخلّفنا ، وفرقتنا .
الذين جنوا علينا هم من استحوذوا على الثروات التي شاءت الأقدار أن ( تنبع) من تحتهم وهم يبركون في الصحراء ، بالمصادفة ، وهؤلاء العشائر صاروا دولاً شتّى ، وارتبطت ( دولهم) بناهبي ثروات الأمّة التي ( تحميهم) من ( شعوبهم) ومن غضب وقهر وجوع عرب محرومين تواّقين للحريّة ، والعدل ...
الغيفاريّة كما تقصد ، وكما هو واضح من خطابك يا أدونيس العزيز ، هي المقاومة ، وهنا أذكّرك بأن المقاومة حررت : تونس ، الجزائر ، المغرب ، اليمن ، جنوب لبنان ، وأنها تحشر الإمبريالية الأمريكية في ورطه لا مخرج لها منها في العراق ، وأنها تتأجّج في فلسطين رغم كّل مؤامرات خنقها وإطفاء نارها ، وانكشاف زيف الشعارات الديمقراطيّة التي فضحتها نتائج الانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة والتي أسقطت الفساد ، وحشرت مسيرة ( أوسلو) في الزاوية ، وما نراه من تآمر على نتائج صناديق الاقتراع والخيار الفلسطيني الشعبي .
عندما اقتحمت القوّات الأمريكيّة بغداد يوم 9 نيسان كتبت شخصيّاً بأنها ربّما تكون نهاية الإمبراطوريّة الأمريكيّة ، ولعلّ هذا ما أدهش بعض الأصدقاء في لحظة اليأس تلك ، وها نحن نعيش ونرى أن نهاية إمبراطورية الشّر ستكون بتضحيات العراقيين ومقاومتهم الباسلة ، رغم عظم التضحيات .
مأزقنا الذي نحن فيه كعرب تكرّس في ( كامب ديف) و( أوسلو ) و( وادي عربة ) ، وخيار السلام الذي ما فتئت تروّج له نظم الفساد ، والخراب ، والتفتيت ، والسلط المستبدّة ، وثقافة التضليل بكّل تجليّاتها .
تقول ب(أن السلاح منذ يلبس رداء العنف ينقلب إلى عدو للحريّة نفسها ، يصبح نوعاً من العدوان على الذات والآخر ، معاً ..) .
يبدو أنك يا أدونيس لم تقرأ دراسات أحد منظّري الثورات في القرن العشرين ، الدكتور فرانز فانون ، الذي توقّف عند فكره مطوّلاً إدوارد سعيد ، المارتينيكي الذي انحاز للثورة الجزائرية ، وكتب من خلال التجربة الميدانيّة في الجزائر ، من داخل مجتمعها ، وثورتها : ( معذبو الأرض ) و( سوسيولجية ثورة ) ، لترى كيف اكتشف طبيب الأعصاب النبيل ، أن ( الثورة ) هي التي تحرر المجتمع ، والأفراد ، من أمراضهم ، وعقدهم ، وبؤس حياتهم ، وتحقق لهم التوازن النفسي ، واحترام الذات، وتفجّر القوى الكامنة في روح المجتمع ...
هل لديك فكرة عن الأمراض التي يعاني منها أطفالنا في فلسطين بسبب جنود الاحتلال ؟ بسبب المداهمات الليلية لجنود ( الآخر) المتحضريّن القادمين من ثقافة وحضارة الغرب ؟!
هل تعرف أن نساءنا يلدن في السجون الاحتلالية ؟ ماذا كان يقترف النازي الهتلري اكثر من هذا ؟!
تصرخ يا أدونيس لا سلاح للحريّة إلاّ الحريّة – إلاّ السلام .)
يعني شو ( ماذا ؟) يا أدونيس !
قل لي : كيف تتحقق الحريّة في فلسطين ، في العراق ؟!
الحريّة تنزع ، تؤخذ ولا تعطى ، لا يهبها أي ( آخر ) لك ، خلط الكلام لا ينفع ، العبارات المبهرة تزول ما أن توضع أمام المساءلة ، وهذا ما يحدث للعبارات التي تسوقها مغطّاة بالتفجّع على حالنا ، وعلى ( الآخر) ، أي ( آخر) !
هل تقول الغيفارية بالتوريث في بلاد العرب ؟ هل تبارك النهب والسرقة ؟ هل تبرر مراكمة أرقام عوائد النفط في البنوك ، وحرمان الشعوب من تحويلها إلى صناعات ، تنهي البطالة ، وتمكننا من اللحاق بالدول المنتجة ، وتنهي كوننا عالة ، نستورد ، نبذخ ، نبذّر ( ليس نحن بالطبع ، ولكن العربي السفيه الذي تعرفه ، والذي يجلب لنا العار والخزي بسلوكه المنحّط الفاجر في بلاد ( برّه) !.
الغيفارية مقاومة _ أنظر إليها تتجدّد في أمريكا اللاتينيّة ، وتكنس الهيمنة الأمريكيّة اليانكيّة ، نحن نصغي لأصوات شعوبها عبر حناجر : كاسترو ، تشافيز ، موراليس ، وغيرهم من ثوّارها البواسل _ ولذا احترمناها وما زلنا ، فنحن جزء من الإنسانيّة ، وغيفارا مثل هوشي منه ، وماوتسي تونغ ، ومانديلا ، وغاندي ، ومحاضر محمّد ومعلّم شافيز ، وموراليس و.. هؤلاء هم ( آخرنا) وليس بوش ، وبلير ، وبقيّة تجّار الحروب ( لا نأخذ شعوبهم بجريرتهم ، ولذا نصغي جيّداً لروعة ونبل مواقفها ، ونأخذ من ثقافتها بجوانبها المشرقة التي هي لها وللإنسانيّة جمعاء ) .
أتوقّف أمام هذه الجملة التي تبدو لي مفيدة جدّاً : (لم نكن أسياداً على حياتنا ، طوال هذه الفترة . ولم يكن وجودنا إلاّ كمثل كرة يدحرجها الآخرون ...) .
نعم ، هذه جملة مفعمة بالصواب : نحن كنّا ، وما زلنا كرةً يدحرجها الآخرون _ أولئك الآخرون المستعمرون هم جحيمنا ، بالإذن من سارتر _ ولذا يتوجّب علينا ذوداً عن إنسانيتنا أن نوقف الآخرين عن دحرجتنا ، بأن نكّف أرجلهم وأقدامهم عن مواصلة دحرجتنا ، وتدويخنا ، وإفقادنا اتزاننا ، واللعب بنا كأننا كرة ، فلننه هذه العلاقة بين أقدام اللاعبين ، ورؤوسنا !
إنها لعبة دموية ، إجراميّة ليس فيها تكافؤ ، ولا رحمة ، ولا أخلاق ، ولاإنسانيّة ، فما العمل يا أدونيس العزيز ؟!
تسأل نفسك :( من أنت ، أيها العربي الذي يسكنني ؟ )
وأنا أسألك : ما العمل الذي ينقذ العربي الذي يسكن أدونيس( عربيّنا) ؟ وما دور الشاعر ، والمفكّر ؟
أسألك : لمن كتبت هذه المقالة يا أدونيس ؟ إن كنت كتبتها لنا فهي لن تدفعنا للتخلّي عن المقاومة فكراً وسلوكاً ، عن ثقافة المقاومة التي يحاربها بوش وبلير وأتباعهما في بلاد العرب ...
غيفارا وغاندي ثائران ، الفرق بينهما في الأسلوب ، واختيار الوسيلة المناسبة ، ولكنهما مقاومان عنيدان ، وهما ميّزا بين العدو والصديق ، بين من يحتل القارة الأمريكيّة اللاتينيّة ، والهند ، ومن يؤازر ويتعاطف مع شعوبهما ، فالخلط يناسب من يتقاعسون عن خوض معارك حريّتهم حتى النهاية ، من يحسبونها شخصيّاً ، من لا يختارون الأدوار الفادحة التكلفة ...
كان غاندي يردّد : فلتهب على بيتي المشرع النوافذ كل الرياح ، ولكنها لن تقتلعني من جذوري ...
المقاومة هي دفاع عن الجذور، عن الأرض التي تنبت فيها الجذور ، عن أصحاب الجذور ، عن ثقافة الجذور ،والمثقّف الذي لا يخوض معركة الجذور ، وينشغل برضى ( الآخر) البعيد ينبّت ويخسر دوره وجذوره ، ولن تضرب جذوره في أرض ( الآخر) ...
* نشر هذا المقال في مجلّة ( الآداب) اللبنانيّة
بقلم :رشاد أبو شاور*