هل يعود الزمن الجميل؟ زمن الكلمة الساحرة، و العطر الفواح من بين أحرف القصائد العرائس؟ هل تعود الابتسامة إلى ثغور الأميرات الناعسات و الحالمات بعوالم من البهاء و الصفاء، حيث زهور الحب و الوفاء أكليل يزين هامات الأبيات و الشعر الخلاب؟ لم تكن لتنتاب خاطري كل علامات الاستفهام هذه لو لم يقذفني موج بحر هذا النت الغريب إلى ضفاف قصائد الشاعر المصري حسن حجازي و التي كنت و ما زلت أجد فيها بعضا من أنفاس أبي القاسم الشابي و بعضا من آثار نزار قباني بل وبعضا من سحر و روحانية جبران خليل جبران !!! و هي ذاتها الروحانية و حلاوة الإيمان التي قادت هذا الشاعر المرهف إلى كتاباتي و جعلته ينقلها من لغتها العربية إلى اللغة الإنجليزية، فبرع و أبدع حتى في مجال الترجمة و اختار من النصوص ما يوافق ميولاته و القضايا التي يعتنقها و يؤمن بها * حسن حجازي شاعر مصري مشبع بقضايا الوطن الكبير حتى النخاع، لذا فقصائده العديدة لا تخلو من هذا النفس الحزين شأنه في ذلك شأن العديد من أبناء الوطن الذين أثقلت كاهلهم الهزائم و مظاهر الظلم و الاستبداد. وقصيدتاه اللتان أهداهما لشهداء أكتوبر و التي تحمل إحداهما عنوان "أنشودة لأرض الفيروز" أكبر دليل على ذلك، و كلاهما قصيدتان تنضخان برفض قوي لكل مظاهر الفساد و الذل و الدرن الذي أحال بياض كينونة الإنسان و خاصة منه العربي المسلم إلى سواد قاتم تنز منه دماء عفنة بشكل يعكس بقوة صدق ما يقوله الشاعر عبر أبيات معبرة و قوية حد الألم:
"...سمعت النسر الرابض
في أعلى الحصن
يغمغم في أذني:
"ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"
فصفعت الباب بوجهك في حسرة
و أزحت عني ثوب الذل
...."
و ينز حبر الشاعر و يتألم فكره و هو يصل حباله بحبال جروح أخرى لم تندمل بعد، جروحا كسرت ظهر الأمة العربية هذه الأمة التي كثيرا ما يرمز إليها بالمرأة الفاتنة الجحودة و الخائنة أو الساقطة منذ زمن بعيد في أوحال العهر و الخبث السياسي المرير، فلا يملك لها سوى الدعاء و الرجاء و غسلها بحبر قلمه علّ البياض يعود إليها أو ترجع إليها طهارة و عفة الزمن الجميل، أما السؤال الذي يطرحه بقوة في قصيدته "من لفلسطين؟" فيبقى قويا و مدويا تهتز له صدور تحمل بقايا من شيء كان يسمى ضميرا و إيمانا راسخا بقضايا الوطن:
" مَّن ْ لفلسطينْ ؟
مَّن ْ لمجد ِ حطين ْ؟
من لراية ِ صلاح الدين ْ؟
مَّن ْ للقدس ِ
للحرث ِ
للغرس ِ
وسلاحنا فى وجه ِ بعضنا
مرفوع ْ
ودمنا للسفك ِ مشفوع ْ
للفتك ِ مشروع ْ
سلاحنا
فى وجه ِ بعضنا
فى وجهِ نفسنا
فى وجهِ قدسنا
فمَّن ْ للغاصبينْ ؟
يا حماة َ الدين
يا أهلى فى فلسطين
أخوة ُ الكفاح ِ
رفاق ُ السلاح ِ
مَّنْ للصباح ؟
مَّنْ للسماحْ ؟
مَّن لعدو ِ الدين ْ ؟
يا مسلمين ْ؟
مَّنْ للطيورْ؟
للعبورْ ْ؟
فوقَ الصغائر ْ
لصحوِ الضمائرْ
فوقَ الجبين ْ؟!
مَّنْ للقدس ِ؟
ليافا ؟
لحيفا ؟
مَّن ْ لفلسطين ْ؟
يا مسلمين ْ
سلاحنا ؟
بطشنا ؟
فى وجه ِ بعضنا ؟
مّنْ للحق ِ يستبين ْ؟!
يا اهل َ فلسطين ْ
يا مسلمين ْ
مَّن ْ يستبين ْ ؟!
مَّنْ يستبين ْ ؟!!
سيبقى سؤال الشاعر معلقاً إلى حين، و ستبقى الأرض تشرب دماء أبنائها الشهداء الأبرار، إلى أن يشاء الله و يرفع العذاب عن هذه الأمة الذي لحقها بما كسبت أيدي أبنائها العاقين و الجاحدين.
أما ما قرأت للشاعر في الحب و الرومانسية فقصائده في هذا المجال كثيرة و لعل أشدها سحرا و جمالا قصيدته "تمني"* التي يقول فيها:
وأنأى عنك ِ أزيد ُ هوى
وأنأى عنك أزيدُ جوى
وأنأى عنكِ لأدنو أكثر
لأعودَ بشوقٍ أكبر
يسع ُ الدنيا وأكبر !
قلبي كفراشِ ِ الليل ِ الحائر
كفراشِ ِ الليلِ السابحِ
فى سحب ِ النارْ
يتمنى الوصل ثم يموت !
قلبي نجمٌ ليلي المدار
يخشى النهار
فى ضوء الشمس
يخشى غاباتِ اللمس
فى ظل ِ الشَّعر الأسود
يدركني الدوَار
أخشى أن أنهار
فُأسلم !
يا شمسَ عمري
إن عمَّ الليل ُ وعسعس
لا تغربي
اجعليني دوماً
في مداري المعهود
قربَ القلب
وعينيكِ سئمت ُ الوحدة
وليالي البرد
وعينيك ِ فأطلي
وأذيبي عن قلبي الصد
لنُولدُ من جديد
وما ذقنا طعماً للهجر !!
الجميل في شعر حسن حجازي بساطته كمفهوم يقربه من الرقي و الجمال، ليس فيه مداراة و لا تحايل على الكلمة سواء في الشكل أو المضمون مما يجعل القارئ لا يكل و لا يمل من قراءة أشعاره، فالمعاني واضحة و صادقة بشكل يجعلها تصل مباشرة إلى القلب و لم لا وهي نابعة من القلب كي تخاطب وجدان القارئ؟
ليس ثمة من شك بأن الطريق مازال طويلا أمام حسن حجازي، و ليس بالشيء المستحيل أبدا لقلم ذي إرادة و عزيمة قويتين أن يصبح يوما ما علماً من أعلام الرومانسية في العصر الحديث فأرض النيل ما زالت ولادة و مازال أبناؤها يفاجئوننا بمواهبهم و بشفافية روحهم و رقة الكلمة في قوة و عنفوان و صدق متجددين*
ـــــــــــــ
د. أسماء غريب
إيطاليا