الغَـرِيب
.
.
.
كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
والنَّارَ والعَاصِفَهْ
كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا
وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ
كُنتَ تُسْلِكُ خِصبَ الأمَانى بِمُهْرَةِ حُلمِكَ
تَرْتُقُ ثَوْبَ السَّلامْ
فانْتَبِهْ؛
أَيُهَذا الغَريبْ:
ها هُوَ المَاءُ أُنْشودةُ الغَيْمِ للسَّهْلِ
يُرْسِلُهُ الرِّيحُ للبَحْرِ عَبْرَ اخْتِلالِ الفُصُولْ!!
ها هِيَ الشَّمْسُ
- فى الصُّبحِ –
تُشعِلُ - فى نَفْسِهَا – النَّارَ
كى تُرسِلَ الدِّفءَ والضُّوءَ للأرضِ
تحرِقُ عُشَّ اليَمَامْ!!
ها هُوَ الزَّرعُ تهوي على جَذْرهِ الفَأسُ
(صانعةَ الخِصبِ) رُغمَ اخْضِرارِ الفُرُوعْ!!
ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
- قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!
فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
- ياأَيُهَذا الغَريبْ -
ثُمَّ نَمْ
هادئًا
(في سَلامْ)
....
الرؤيـة النقديـة:
========
قبل البدء:
يحمل العنوان "تناقضا" يصرخ بنا:
- لستم أمام لوحة عادية، أنتم في عالم شائق؛ فاربطوا أحزمة الصمت، ودعوا المجال لسفر ذائقتكم!
فرغم تعريف الاسم "الخارجي" "الغريب" يبقى "نكرة" لدى الآخر، فالغربة في هذه الحالة مؤلمة، ووقعها مؤذ!
والمتأمل في العنوان يجده مختزلا لمعاني القصيد؛ فنحن أمام "غربة" ستصحبنا طيلة "سفرنا" في عالم هو الحياة بجميع مظاهرها عالم "الماء، والنار، والهواء، والتراب" مجمعة كلها في حياة منفصلة تحوي تلك العناصر كلها هنا:
الماء: والبَحرَ -غَيْمًا -المَاءُ -الغَيْمِ -للبَحْرِ
النار: والنَّارَ -وشَمْسًا -الشَّمْسُ -تُشعِلُ -النَّارَ-الدِّفءَ -والضُّوءَ -تحرِقُ
الهواء: والعَاصِفَهْ-الرِّيحُ
التراب: الخِصبَ -خِصبَ -للسَّهْلِ-للأرضِ -الزَّرعُ -الخِصبِ) -فاحْفُرِ
الحياة: وسَيْفًا -وفَأْسًا -الظَّلامْ-الأمَانى -حُلمِكَ-السَّلامْ -الفُصُولْ!! -الفَأسُ-اخْضِرارِ -السَّيفُ -الحُلْمِ-القلبَ -الخِصَامْ!!-قبرَكَ-نَمْ-سَلامْ)
فالصراع هنا حول حياة بدت بعناصرها تختال ما بين الداخل، والخارج في حركة دائرية متقنة برع الشاعر في تصويرها، وتركيب رموزها!
وفي البدء:
كان العنوان "الغريب" موحيا بالغياب في الحضور، بالغربة في الوطن، فتعريف لفظة "الغريب" بـ(ألْ) لم يخرج صاحبها من عالم "التنكير" واقعا، وإن أخرجه لغة!
وكأني بالشاعر يريد إخبارنا أنّ لغة الخطاب النافذة في الصوت لدى "الغريب"قد لا تختلف عن "الصمت" لدى غيره!
لذلك بدأ قصيدته بصمت أطبقت عليه علامة الحذف الموزعة عموديا، وكأني به يقرر أن انعدام العلاقة الأفقية، واختلال التواصل يجعل الصمت، أو "الخرس المجتمعي" يطفو على العلاقة بين أفراده؛ فالصمت هنا:
صــــوت الغريب القابع في مجاهل حياة تتقاذفه!
(و)
مــــــوت هو في حقيقته نوم في سلام في عالم تختلط فيه الحقائق بالأوهام!
(و)
تــــــ"ـغريبة" الحالم الحامل لسيفه، وفأسه السائر تحت ظل أمانيه، وغيمه الهائم!
إذا فالنقاط الثلاث العمودية:
.
.
.
هي في حقيقتها حروف ثلاثة، ولا غرابة إن توافقت مع حروف الصمت الثلاثة (ص-م-ت)!
. (ص)
. ( و )
. (ت )
تغريبة المكان:
يتنقل بنا الشاعر بعدسته عبر الأماكن، فيبدأ من داخل "الغريب" من "خياله الخصب" وحلمه الرائق مع تأكيده على "الغرابة" بمزج الخصب، والبحر بالنار، والعاصفة، وذكر الغيم مقترنا بالسيف والفأس!
كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
والنَّارَ والعَاصِفَهْ
كُنتَ تحشدُ فى جَعبةِ الحُلمِ غَيْمًا وسَيْفًا وفَأْسًا
وشَمْسًا تُضِيءُ الظَّلامْ
كُنتَ تُسْلِكُ خِصبَ الأمَانى بِمُهْرَةِ حُلمِكَ
تَرْتُقُ ثَوْبَ السَّلامْ
ثم ينقل عدسته خارج "الغريب" إلى الأرض التي تحمل "جسدا" قد يكون له، فيأخذنا في رحلة الغيم، وهو يغازل البحر، واليابسة!
ها هُوَ المَاءُ أُنْشودةُ الغَيْمِ للسَّهْلِ
يُرْسِلُهُ الرِّيحُ للبَحْرِ عَبْرَ اخْتِلالِ الفُصُولْ!!
وتتواصل رحلة العدسة من الأرض إلى السماء، فيصور لنا الشاعر الشمس المتقدة وهي تغزل الدفء من ذاتها الفاعلة!
ها هِيَ الشَّمْسُ
- فى الصُّبحِ –
تُشعِلُ - فى نَفْسِهَا – النَّارَ
كى تُرسِلَ الدِّفءَ والضُّوءَ للأرضِ
ثم، وبحركة بارعة تعود العدسة نحو الأرض-الخصب التي ارتوت من السماء؛ ليصف لنا الفعل-السالب فوقها:
ها هُوَ الزَّرعُ تهوي على جَذْرهِ الفَأسُ
(صانعةَ الخِصبِ) رُغمَ اخْضِرارِ الفُرُوعْ!!
وأخيرا ينفذ إلى داخل الذات ثانية، والعودة عبارة عن انكماش، وعزلة، أو هو عودة الآخر الذي نما، وترعرع خارجا؛ ليعود مهدما للحصون من داخلها!:
ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
- قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!
تغريبة الزمان:
فإلى جانب سفر "عدسة" الكاتب عبر الأماكن وهو يعرفنا بالغريب، وعالمه الممتدّ من نفسه إلى الآخر، ها هو يختزل الزمن بماضيه، وحاضره، ومستقبله، في لحظة يستدعيها من جدار ذاكرته المتعبة، ويجمع أزمنة الفعل بترتيب تصاعدي يدلّ على التفاعل، والانفعال، فمن رحلته عبر الماضي يبرز لنا الحركة الفاعلة:
كُنتَ تَحملُ
كُنتَ تحشدُ
كُنتَ تُسْلِكُ
ثم يعود بنا إلى الحاضر، وكأنه يريد أن يبين لنا نتيجة الأفعال الماضية في الحاضر:
ها هُوَ المَاءُ ...يُرْسِلُهُ
ها هِيَ الشَّمْسُ...تُشعِلُ
ها هُوَ الزَّرعُ تهوي
ها هو السَّيفُ...يَثــقُبُ
وبما أن الناتج لم يكن في حجم الفعل الماضي، وبلهجة تحمل "نصرا يائسا" أو قل "هزيمة مؤمّلة" نراه ينتقل إلى فعل الأمر بطلب السكون ما دامت الحركة لم تنتج إلا عودة إلى الداخل عبر سيف ينفذ حيث "الخصب والبحر والنار والعاصفة!
فاحْفُرِ
وكأني بالشاعر يعود بنا من جديد إلى البدء:
كُنتَ تَحملُ فى قلبِكَ الخِصبَ والبَحرَ
والنَّارَ والعَاصِفَهْ
...
ها هو السَّيفُ فى جَعبةِ الحُلْمِ
- قَدْ عِشْتَ ترعاهُ عامًا فَعَامْ -
يَثــقُبُ القلبَ عِندَ احْتِدَامِ الخِصَامْ!!
...
فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
- ياأَيُهَذا الغَريبْ -
ثُمَّ نَمْ
هادئًا
(في سَلامْ)
ثم يعود بنا الشاعر إلى الحذف من جديد لكن هذه المرة على شكل أفقي، وكأنه يريد تذكيرنا بأن الصمت لا يختلف عن الصوت إن كان هذا الأخير بلا صدى يحمل أمرا بالصمت الأبدي:
صــــرير الأحلام المتخشبة
(و)
واحة تجمع ثلاثية الحياة (الماء والتراب والهواء)!
(و)
تــــابوت يرحل بالمدى حيث الصمت له صدى!
بعد البدء:
من هذا الغريب؟!
هو نموذج لشخصية متوازنة تبدو فيها عقليته "متسقة" مع نفسيته، هو قابض على جمر "هويته" وهذا "نرتشفه" مما قيل عنه؛ فهو مماثل لنفسه مختلف عن الآخرين، تميز بالاستمرار عبر الأزمنة (الماضي-الحاضر-المستقبل) وبقاؤه كما هو رغم حركة الآخرين السلبية، ودعوتهم له بالسكون دليل على استحقاقه لقب "الغريب"!
وكأننا نلمس داخل القصيد صراع هوية يبدو فيه الثابت على مبدئه فاعلا محلقا محاطا بعناصر السمو، والعلو، يحمل الخصب، ويحشد الغيم، ويسلك طريقا يحفه الأمل، ويرتق ما يفتقه القابعون تحت أقبيتهم "المتغرّبة" المنبتة القاتمة!
وفي المقابل يركن المتحول إلى الأرض-الحصن قصد الامتصاص-الهدم، ويدعو المتحرك إلى السكون، والهدوء السلبي:
فاحْفُرِ الآنَ قبرَكَ
- ياأَيُهَذا الغَريبْ -
ثُمَّ نَمْ
هادئًا
وإمعانا في "تزييف" الواقع العفن يتم تصوير الهزيمة كنصر، والموت كسلم:
ثُمَّ نَمْ
هادئًا
(في سَلامْ)
ماذا يريد؟
بمجرد نظرة خاطفة مع استراق السمع لدلالات المعاني نستنج أن "الغريب" هو الأمل -الحلم الكائن الكامن فينا من يحمل مشروعا إحيائيا نهضويا مقترنا بمبررات بقائه، لم يكن يحلم، وهو ساكن، بل كان يعمل، ويأمل، ويحمل دعوته عبر نفسه للآخر، والآخر يبدو في القصيد عنصرا "مثبطا" للعزائم تارة، وخارقا للصوت الواعي محاولا لفّ الصوت الثائر بصمت المقابر تارة أخرى!
وبعد:
هذه لمحة عن رؤية بدأتها، وحاولت من خلالها أن أجعل "نجمة القصيد" تتعرى في "وجه ظلمته" وأرجو أن أكون قد وُفِّقت!