هو ذا الليل يميط لثامه عن وجه السماء، و الصبح بدأ يغزل مكانه غلالته الرقيقة بخيوطٍ شفافةٍ شيئاً فشيئاً...
في تلك الليلة الشتوية القارسة، كانت الأم تقف وراء زجاج النافذة السميك تحدّق بعينين شاردتين في المجهول فتصطدمان بالأفق الوهمي البعيد معانقاً قمم جبال"البرينية" الشامخة المكللة بالثلوج...
الكون كله في الخارج مغطىً بالبياض كأنه عالمٌ أسطوريٌ، أو لعله الحلم...
الثلج يتساقط منذ يومين بشكل مستمر، يغطي المساحات الشاسعة الممتدة أمام النظر...فتبدو الدنيا كطفلة تفتح عيونها بدهشةٍ ناصعةٍ بريئة...!
منذ سنوات لم يزرهم الثلج بهذه الكثافة... ثلاث سنوات تحديداً...منذ...منذ شتاء رحيل "إميلي"...
هذا الشتاء سخيٌ بكل ما فيه، حتى الورود البيضاء في الحديقة مازالت تتفتح رغم البرد.. أول عام تتفتح فيه بهذا السخاء ...بل إنها ازدادت جمالاً عن ورود الصيف...
أتراه يخبئ لها سخاءً من نوع آخر؟!
تنظر إلى البيوت الجاثية بوداعة تحت سيل الزغابات الثلجية، على البعد بيوت من قرميدٍ أحمرَ تغفو على الربوة المقابلة حيث تستلقي على أعتابها غابة البلوط القريبة التي تقسم القرية إلى طرفين متقابلين، في تلك المنطقة دائمة الخضرة في " الآرييج" من جنوب فرنسا.
ضمت شالها الصوفي إلى ذراعيها وصدرها بشدة من جديد، تشعر بقشعريرة تسري في أوصالها رغم نيران المدفأة الحجرية المتوهجة المشتعلة، التي تنشر الدفء بحنان وسخاء في أرجاء المنزل الريفي البسيط، تبعث رائحة الخشب المحترق وورق الشجر الجاف الأمان، وتشيع مع احتراقها في ذاكرتها أصداء حلم ملوّن قديم قديم...!!
يوم كانت صغيرتها إميلي تلعب هنا وهناك في أنحاء المنزل وتنثر الربيع والحب والسعادة.
هناك في زاوية الحديقة، وعلى كتف شجرة الكرز كانت تضع دراجتها الحمراء دائماً، وفي كل مرة كانت تصطنع الغضب وتقول لها:
- إميلي!كم مرة علي أن أكرر أن مكان الدراجة ليس هنا؟!
-آسفة ماما، لقد نسيت، أقصد... لقد كنت متعبة !
وتنظر بأسف بعينيها الزرقاوين البريئتين تنتظر الرد ، فتبتسم الأم سراً وتقول في كل مرة بجدية مصطنعة
-لا بأس، هذه المرة.
تعود النجمتان في عينيها للالتماع بعد انطفاء لم يدم أكثر من لحظات، ويفترُّ ثغرها عن ضحكة تضيء وجهها العذب، وتعود لامتطاء الدراجة من جديد لتسابق الأثير.
أطل الصبح في ذلك اليوم حزيناً شاحباً، الشمس تختبئ بحياءٍ خلف براقعٍ من السحب الداكنة، ارتدت إميلي ثيابها بسرعة، بعد أن شربت كأساً من الحليب بالشوكولا، وركبت دراجتها الحمراء بخفة ورشاقة أعوامها الغضة العشر .
- انتظري، خذي قبعتك وشالك الصوفيين، إلى اللقاء حبيبتي.
- شكراً ماما، إلى اللقاء.
استدارت وخصلات شعرها الذهبي تتطاير تحت قبعتها وشالها الزرقاوين الصوفيين وابتسمت لأمها، وأرسلت لها قبلة هوائية ولوحت بيدها الصغيرة... وطارت تسابق الريح، كان آخر ما لمحته منها شالها الأزرق، الذي حاكته لها مع القبعة هديةً يوم عيد ميلادها العاشر، وهو يتطاير مع صفير الريح الباردة... وابتلعها الطريق ...والأيام والسنوات.
تثاءب المساء ..وعاد الأولاد جميعاً إلى بيوتهم الدافئة، لقد تأخرت إميلي، ربع ساعة أو يزيد مضت على موعد الانصراف
البيت موحش وتحس بانقباض، وكأن هنا عيون تتلصص عليها من خلف أبواب الغرف المعتمة، تروح وتجيء عشرات بل مئات المرات أمام النافذة.
المدفأة مشتعلة ولهيبها يتراقص مع حفيف اشتعال أعواد الحطب كالمعتاد،وتسلل دخانها هارباً لخارج المنزل معانقاً المدخنة، و منتظراً بلهفة، بتوجس، وقلق عودتها.... و رائحة الحساء الساخن تنبعث من المطبخ بدفء وشهية، أما أبخرته الملتهبة المتواثبة فقد بدأت تشعر بالتعب و الضجر ففترت وهجعت إلى القاع...
القلق يضرم في صدرها براكين قلق وجزع عارمين، ما عادت تحتمل الانتظار أكثر، سارعت كمجنونةٍ إلى خارج المنزل تسائل الجميع عن سبب تأخر وحيدتها، وتبلغ عن اختفائها.
أخبارٌ شحيحةٌ من رفيقاتها عن خروجها من المدرسة فعلاً ولكنها لم ترافقهم، فضّلت عبور طريق الغابة عوضاً عن الطريق المعتاد فقد كانت متعبة من يوم دراسي طويل و تريد الوصول بسرعة لتنعم بالدفء والحساء.
و شهدت إحدى العجائز في القرية أنها قد رأتها حقاً توغل في طريق الغابة الضيق المعتم على دراجتها ولكن ما شهد أحدٌ ما برؤيتها تخرج من الغابة المظلمة...منذ ذلك الحين.
وبعد بحث مضنٍ ولأيامٍ متوالية طوال، عُثر على دراجتها الحمراء مرمية وشالها وقبعتها الزرقاوين متسخين ممزقين تحت دغل متكاثف من أشجار البلوط في الغابة ذاتها مطمورين تحت ركام الثلوج المتساقطة خلال أسبوع مستمر.
تنفس الصبح شاحباً مع إطلالة الشمس الباهتة الباردة، بعد إغفاءة عميقة له طوال الليل.
و تنهدت الأم بعمق و انتبهت إلى دموعها المنهمرة تغسل وجهها طوال هذه الليلة الثلجية، دون أن يغفو الأمل في قلبها لحظة واحدة طوال تلك السنوات الثلاث رغم تلال هواجس الأرق التي تكاد تخنقها...
وهناك، ومنذ ذلك الحين، وعلى جدران البيوت المجاورة العتيقة، وعلى واجهات المحلات الصغيرة التي بدأت بالنهوض والحركة لليوم الوليد ، وعلى جدران المدرسة، وعلى حيطان الأماكن العامة في تلك القرية و في القرى المجاورة، بل وعلى امتداد فرنسا كلها من شمالها لجنوبها مازالت صور إميلي بأعوامها العشرة، ملصقةً في كل مكان تبسُم لكل من يراها بعينين تشعان نضارةً وحياة، وخصلات شعرها تنسدل على كتفيها دون قبعة أو وشاح...
ــــــــــــــــــــ
رزان محمد