كلّ ما يخرج عن سطحيّة ويساوي ما يُسمّى <بالفكر الأوحد> الغربي (la pensee unique) يشكّل بحدّ ذاته إيجابيّة، بغضّ النظر عن البديل الذي يطرحه، فإن كلّ فكرة أو نظريّة تحدث جدلاً داخل عالم اللاجدل الأوروبي بالتحديد مُرحَّب بها، كونها تطرح موضوعاً جديداً يدعو إلى مناقشة حكميّة، أو تعيد موضوعا قديما على جدول طاولة النقاش عبر معالجته بطريقة تختلف جذريّاً عن تلك التي نالت توافق معظم الذين يمثّلون السلطة الثقافية.
عندما طلبت كلارا دوبون مونود (Clara Dupont-Monod)، مديرة مجموعة في دار دينويل (Denoel)، من إيريك زيمور (Eric Zemmour) دراسة مقتضبة عن المرأة والعلاقة بين الجنسين، لم تكن تتوقّع من الصحافي في مجلة الفيغارو (Figaro) المتخصّص بالسياسة الداخليّة الفرنسية، مؤلّف كتاب تحليلي ممتاز عن الرئيس الفرنسي جاك شيراك (الرجل الذي لم يحب نفسه - L"homme qui ne s"aimait pas)، أن يتقدّم بنقد لاذع واستهذائي للإيديولوجية النسويّة السائدة في الغرب، ابتداء من عنوانه، <الجنس الأول> (Le premier sexe)، الذي هو تحريف لعنوان كتاب سيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir)، <الجنس الثاني> (Le second sexe)، الذي شكّل الأساس الفلسفي، الناتج عن التيار الوجودي حسبما وضعه رفيقها، الفيلسوف والكاتب جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre)، للحركات التي تدعو الى تحرير المرأة في الغرب منذ الستينيات.
التوتاليتارية النسويَّة
< إن الخطاب الذي يدمج بين قِيَمه الخاصة وقيم البشرية جمعاء هو خطاب كلّ القوى المهيمنة، منذ الإمبراطورية الرومانية وصولاً إلى مفهوم الأميركي للعيش. < هكذا تحوّلت، وفقاً لزيمور، القيم النسائية إلى قيم عالمية: هكذا تحوّل الحوار، النعومة، السلام، التروّي، التسامح إلى أهداف بحدّ ذاتها، وبالتالي <لم تعد المرأة جنس، بل مثال>.
<كلّ الجهد الإديولوجي للحركات النسويّة والمثليّة يكمن في إعتبار الفوارق الجنسيّة غير طبيعيّة، إذ هي فوارق ثقافية حضاريّة، إصطناعية من ابتكار الإنسان، <وهذا الجهد يدخل ضمن إيطار أشمل، إيطار إزالة كلّ الفوارق والتصنيفات الأخرى كالمقدّس والمدنّس، العام والخاص، الأصيل والأجنبي، أيّ تحويل النظام إلى فوضى، إلى إلتباس حول كلّ شيء، إلى <إلتباس حالم> (le confuso-onirisme) كما يصف فيليب مواري (Philippe Muray) العالم اليوم>.
يميّز زيمور بين ديناميّتين أساسيّتين للحركات النسويّة في الغرب، ويختصرها على الشكل التالي: لقد حاولت المرأة في النصف الثاني من القرن الفائت ان تتحوّل إلى رجل، عندما فشلت في ذلك فرضت على الرجل أن يتحوّل إلى مرأة.
تحولت الى رجل
في مرحلة أولى، اكتسبت المرأة حقّ الإنتخاب، الطلاق، الإجهاض، وسائل منع الحمل، التحرّر الجنسي... لكن كلّ هذه الإنجازات الإجتماعية ادّت إلى إحباط ما يُسمّى <جيل 86> الذي يصفه بعمق نادر الروائي ميشال ويلباك (Michel Houellebecq) : أمهات وحيدات لأولاد من دون أباء، تحاولن نيل بعض الملذّات الجسديّة في النوادي المتسامحة، أو بعد ان تحوّلن إلى سحاقيات تعيسات لم تعد تروق لهنّ الحياة. لقد حاولت المرأة طويلاً أن تكتسب ما اعتقدته تقدّماً في وضعها العام، من مركز إجتماعي ومهني وسياسي، لتفرض احترامها وتقديرها من خلال إنتاجيتها وملاءتها الماديّة، إلى حدّ أنها فرضت نظام الأمومة كبديل على نظام الأبوّة، ممّا أدّى من جهة إلى نقاشات حادّة حول مَنْ، بين الرجل والمرأة، يجب ان يقوم بالأعمال المنزليّة، ومِن جهة اخرى إلى مشكلة جوهرية في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، جراء تحوّل هذه الأخيرة إلى رجل، حتى في مظهرها الخارجي، وعدم اهتمامها بجمالها الذي أدّى إلى تلاشي رغبة الرجل لها. <دخلت المرأة السياسة عندما لم يعد للسياسيين أي سلطة، دخلت عالم الإنتاج عندما أصبح كل عامل موظف، نالت حريتها الجنسية عندما واجه الغرب أزمة رغبة شاملة>.
إن جوهر رغبة الرجل للمرأة يكمن، بحسب باسكال كينيار (Pascal Quignard) الذي يذكّر به زيمور، في الجذب الذي تشكّله رؤية العضو الذكوري عند المرأة. بعبارة أخرى، رغبة الرجل للمرأة تنشأ عندما يطمئن الرجل، من خلال إغرائه للمرأة، لقدراته الجنسيّة، ففقدانها هو هاجس دائم عنده وقد حاول منذ بدء التاريخ، أيّ منذ حوالى خمسة آلاف سنة، أن يعوِّض عن إحتمال فقدان القدرة الجنسيّة من خلال إكتساب القوّة السياسيّة. بعبارةٍ أخرى، ان مجمل ما قام به الرجل، والذي نسمّيه الحضارة والتاريخ (العلم، السياسة، الدين، الفنّ، الحرب...) هو أوّلاً إثبات للمرأة أنه يستحقّها. والمرأة التي لم تتلوّث بالنسويّة الغربية هي التي تدرك أنما جمالها وإيحاؤها هو بحدّ ذاته عَوَض كامل لما يقدّمه لها الرجل من خلال كلّ ما صنعه، والذي يحوّل إنتظارها إلى خضوع. مع تحوّل المرأة الى رجل، دُمِّرت هذه العلاقة الجوهرية بين السياسة التاريخ والجنس، أيّ التمييز الأساسي بين الرجل والمرأة، أيّ مجمل الإرث اليهودي المسيحي الذي صنع الحضارة الغربية.
امّا المرحلة الثانية، مرحلة تحويل الرجل إلى مرأة التي يشهدها الغرب اليوم، فقد بدأت مع هزيمة المرأة في تحوّلها إلى رجل، أيّ مع اعترافها مجدّداً بحاجتها الى الرجل كعنصر الضمان الأساسي في حياتها. لكن المرأة اليوم ترفض الرجل الذكوري، الفاجر، وريث كازانوفا (Casanova) ودون جوان(Don Juan) : المرأة اليوم تريد من جديد رجلاً يشاركها حياتها بالتزام ووفاء كاملين. الحبّ هو أوّلاً ابن المرأة، الحبّ بحسب الميثولوجيا اليونانية الرومانية ليس إلا طفل صغير، ابن فينوس (Venus)، إله الأنوثة. كما كان يدرك ذلك شوبنهاور (Schopenhauer)، كاتب <بحث حول المرأة> (Essai sur les femmes)، إن النتيجة لكون الإنسان من فصيلة الضرعيات (mammiferes)، يضع الأنثى في موقع الضعف خاصةً عندما تكون حامل، فهي بالتالي بحاجة إلى حراسة الذكر لها ولصغيرها، ولتأمين حاجياتهما من خلاله، وبالتالي المرأة أقلّ ميولاً إلى الخيانة لأنها لا تنجب إلاّ طفلاً واحداً في السنة، أمّا الرجل، الذي يمكن نظريّاً ان ينجب مئات الأولاد في الفترة نفسها، يكون بطبيعته متعدّد الزوجات، إذ أن دوره في الإنجاب آني. لذا، اخترعت المرأة الحبّ كوسيلة لإبقاء الرجل إلى جانبها. فالزواج هو ابن الحبّ، الذي هو ابن المرأة : الرابطة الزوجية ليست إلاّ إرغام الرجل بالقيام بموجباته تجاه المرأة وأولادها، بشكل أن يستحيل عليه الإنتقال إلى شريكة أخرى.
حركة تأنيث المجتمع الغربي تتمثّل بنظر زيمور بالفارق بين مضمون كتابات ليون تروتسكي (Leon Trotski) ونصوص أوليفيه بوزانسنو (Olivier Besancenot)، بين الدموع كحكرٍ على المرأة ودموع رجال السياسة العلنية اليوم، بين أسرار العائلة الأبويّة التي تنتقل من الأب إلى الابن وإفشاء هذه الأسرار للأم، بين فصل نسوة رجل واحد إلى زوجة وعشيقة وعاهرة وجمعها في إمرأة واحدة.
بعد ان عادت المرأة، في محاولة لجذب الرجل مجدّداً إليها (بعد فتور جنسي طويل أدّى إلى الهجرة الكثيفة نحو أوروبا من بلاد الإستعمار السابقة والمشكلة الحضارية الدينية الكبرى التي سببتها)، إلى استرجاع أنوثتها وتقويم جمالها، بدأ الرجل الغربي يهتمّ بمظهره، يشترى الأدوات التجميلية ويعمد إلى إزالة الشعر، وفق الترويج الرأسمالي الذي، بعد تلاشي مفعول إعلانات بينيتون (Benetton) الداعية إلى التعدّدية العرقيّة، تبنّى قضية تأنيث العالم، إلى تمليسه بكلّ ما للكلمة من معانٍ. <فالشعر علامة الرجولة، علامة الفرق بين الرجل والمرأة،> علامة تمازج العنف والمكاسب الجنسيّة، وإزالته تزيل معها ما يمثل.
ماذا عن المرأة العربية
حدّ كتاب زيمور الأساسي ناتج عن إقتصاره على معالجة المرأة كمفهوم غربي، لا بلّ فرنسي فقط، بغضّ النظر عن كون فرنسا تمثّل، خاصةً في هذا الإيطار، الغرب بمجمله، أو على الأقلّ الغرب الأوروبي. ممّا يطرح سؤال بديهي: ماذا كان سيكتب زيمور لو سُئِل عن رأيه بالمرأة العربية؟ يمكن التكهّن أنّه كان سينطلق من الواقع الخاص بالمرأة الإسلامية: دينها. فإن الدين المحمّدي ذكوريّ وأبويّ بإمتياز، ومن الواضح أن ما قامت به شريعة هذا الدين في تحسين وضع المرأة العام بالنسبة لذلك الذي كان سائداً في العصر الجاهلي لا يُقارَن بالوضع العام الحالي للمرأة الغربيّة، التي تتوق إليه المرأة الشرقية العربيّة، وعياً أو لا وعياً. فإذا حجَّب الإسلام المرأة أوّلاً لحمايتها من شراهة الرجل، يكون حجب عن الرجل جمال المرأة بالوقت نفسه، وبالتالي، فعلى الرجل ان يكثّف بطولاته، أن يصنع بحماسٍ أكبر التاريخ ليتمكّن من رؤية المرأة أوّلاً، ثم مجامعتها.
يشكّل الحجاب إذاً حافزاً إضافياً للرجل، كما يجنّب المرأة العربية معاناة نظيرتها الأجنبية، الذي يتمثّل بالجمال، أيّ بخاصة الرجل في تصنيف النساء والتمييز بين امرأة وأخرى. فالحجاب هو وسيلة لمساواة النساء بعضهنّ ببعض. من هنا، إنّ الرجل العربي، على عكس الرجل الغربي، لن يتأنّث، كما وأنّ المرأة العربية لن تترجِّل. بين هذين الحدّين، تحاول المرأة العربية اكتساب تحرّر لن يغيّر جذريّاً في واقعها الإجتماعي، فإذا نالت حقّ العمل أو التصويت لن تكتسب الحريّة الجنسيّة المكرّسة علانيّةً، ولا حقّ الإجهاض أو الوقاية إلاّ بشكلٍ سرّي، وستبقى السلطة العائلية منوطة بالرجل الأب.
اما المرأة اللبنانية بالتحديد، تلك المرأة الفصامية بين الشرق والغرب، أكانت مسيحيّة أو مسلمة، كعادتها، اعتنقت نسويّة متجزِّئة، تطالب من خلالها المساواة بالرجل من ناحية الحقوق، وفي الوقت نفسه التنصّل من الموجبات المقترنة بتلك الحقوق. تريد الدخول في الحياة العملية من دون ان تتحمّل عبء عائلي، تريد الدخول في الحياة العامة بالرغم من جهلها الفادح بالسياسة، تريد إغواء الرجل مع الحفاظ على بكارتها، تريد الإستمتاع بتفاهات التسوّق من دون الإهتمام بأولادها، تريد ان تثور على واقعها الإجتماعي من دون ان تتحرّر من سلطة والديها، تريد ان تفرض خياراتها على أسرتها من دون أن تفرض تلك الخيارات على نفسها، تريد أن تتحرّر جنسيّاً من دون ان تتحرّر ماديّاً، تريد ان يكون الرجل وسيلة من دون أن تتحوّل هي إلى غاية.
لقد فقدت المرأة اللبنانية، كامرأة في آن مسلمة ومسيحيّة، شرقية وغربيّة، من جهة مبرّرات الحركات التقدّميّة الأنثويّة الغربيّة ومن جهة أخرى ضمانات المجتمع الشرقي لها. فشلت المرأة اللبنانية في دورها البيوحضاري التناسلي الأوّل، من دون ان تستعدّ للقيام بالأدوار الأخرى التي تطالب بإخراجها من حصريّة الرجل. إذا اتّهم زيمور المرأة الغربية بترجيل نفسها وبتأنيث الرجل، فكان سيتّهم حتماً المرأة اللبنانية بفقدانها الأنوثة والرجولة على حدٍّ سواء.
السفير