"إذا آمن ستافروجين فهو لا يظن أنه يؤمن ووإذا لم يؤمن فهو لا يظن أنه لايؤمن"
المأخوذون-دستوفسكي
كم هو أمر لا مجد ومخيّب حين نكتب عن بشر لا يقرأون وليس لديهم الهم ولا الوقت لذلك , فلغتهم مختلفة ,أبجديتها طلقات الرصاص. وما يجري ..يجري بعيدا عن آلاف الكلمات التي يلقيها أمثالك يوميا وهي لن ترد طلقة أو تحمي بيتا.
في حين أنهم يتحمسون ويتناقشون ويتطاير لعابهم على الشاشات في حديثهم عن الثورات حتى بعد وقبل خلّوها من أي بعد اقتصادي -اجتماعي , ووضح مدى إذعانها لشروط الخارج ,وتبين أن منتهى غايتهاهو تغيير الحاكم.
إلا أنهم يمجدّون وينظرون لها ويعتبرونها انقلابات فكرية .
وحده حديث الكراهية والتحريض يفعل,ووحدها الإشاعة والخرافات تحكم العقول ووحده حديث القتل والتفرقة يوحّد ويلم !
ولكننا نكتب , ربما لكي نثبت لأنفسنا أولا أننا لا زلنا على قيد الحياة.
قل كلمتك وامش , ولا أحد يضمن لك الوصول سالما ,ولك أن تصدق أثر الفراشة في زمن الأعاصير والتسونامي .
نحن الذين تركتنا السلطات على قارعة الطريق , وتركت غيلانها ومافيوزاتها تلعب بمصيرنا وقوتنا ,حين تهدد وطننا أقنعتنا بأن (الله حامينا) وحين عضتنا الحاجة أجابونا (حسبنا الله ) وحين عطشنا أرسلت مشائخها لكي تدعو لنا بصلاة الإستسقاء .وحين جاء من ادعى أنه آت لتخليصنا ,أتى ليحجرنا وليفهمنا أن الهواء هو نعمة قصوى , وعلينا أن نطلبه كما يشتهي السادة واصبحنا نتنفس من تلك المساحة المتبقية بين المطرقة والسندان .
و كم هي لا مجدية محاولتك أن تصدق أنك تستطيع استخدام ذات الأساليب التي تعاني منها وترفضها لكي تغيّرها
وأنت تعرف قصة الأحمق الذي كان يصطاد في حوض الحمام وسأله عاقل :هل هي تعض الطعم؟
فجاءه الجواب :بالطبع لا أيها الأحمق طالما أن هذا حوض حمّام.
وأن تصدق أن جميع دول العالم أصبحت تلقي بالا فجأة لمصيرك وهمومك وأمانيك , وأنها تستبسل في سبيلك بجميع الوسائل من الإستعراض في مجلس الأمن إلى حصارك ومن ثم إلى دفعك للقتال .
وكم هو لا مجد ما يجري حين تعلم أنهم هناك لم يحسبوا حسابك في لعبة الأمم ,فأنت شيء فائض عن الحاجة ووجودك هو عبء ,إذ ليس لديك الكثير لتقايض عليه, وكل ما يجري محكوم بقانون القوّة , التي لم تستطع أن تبنيها , كم بالأحرى وأنت تقوّض آخر ماتبقى من وجود وطنك وتلقي بنفسك في أحضان الأمم بشكل مهين.
يبدو أن التقسيم الذي تنبأ به أورويل للعالم حقيقي , ثلاث مناطق عملاقة (أوراشيا,أوشينيا,إيستاشيا) في صراع دائم على النفوذ والمصالح .
على ذات الأماكن :أفريقيا الإستوائية,الشرق الأوسط,جنوب الهندوالأرخبيل الأندنوسي.
فينتقل سكان هذه المناطق باستمرار إلى مرتبة العبيد ويعرضون كالفحم والنفط خلال سباق هذه الدول لإنتاح أسلحة أكثر وللسيطرة على أراض أكثر.
ثمة أربع طرق لإسقاط فئة حاكمة:
إما أن تغزى من الخارج,أو أن تكون غير كفوءة فتثور الجماهير ضدها,أو تسمح لنشوء فئة قوية ومستاءة بالتشكل , أو تفقد رغبتها بالحكم.
وهي متصلة بدرجة أو تلك .
بالنسبة للأمر الثاني فهو نظري, فالجماهير لا تثور بشكل عفوي لمجرد أنها مضطهدة .
لذلك فالخطر من وجهة نظر السلطات هو انشطار فئة قوية وقادرة ومستاءة من الناس , ويعود هؤلاء حين ينجحون لإقامة تراتبية تمنع قيام أزمات كبيرة تهدد بتشكل فئة قوية أخرى منافسة .
وحدود كل هذه العملية يبقى مرهونا بالقانون الضروري :المحافظة على حدود ونفوذ ومصالح الدول الكبرى.
لم يقتل ديمتري كارامازوف والده مع أنه هدد بذلك , وأدين بهذه الجريمة رغم ذلك , وحين عجز ألكسي عن دفع التهمة عن أخيه وعن إنقاذ أخيه الثاني من الجنون , وبقيت الآلام تزداد , وعجز عن رد الموت عن الصبي أليوشيا لم يجد جوابا على سؤال الفتية القلقين وعجزه عن فعل شيء لوقف الآلام والشقاء سوى أن قال لهم:
نعم سوف نلتقي بعد الموت , ويقص البعض منا على البعض الآخر ما حدث معه , وسوف نتذكر ذلك بمرح.
هذا هو العزاء .
في الهند القديمة اعتبروا أن نجاح الإنسان وازدهاره لا يشكلان هدفًا للحياة الإنسانية,وعمد المسيحيون لجعل المسيح مخلصا وافترضوا أن ما بعد الموت هو السعادة , ووعد الإسلام المسلمين بجنة حسية .
وفي كل الأحوال نعود للبدء , وللأمر الذي رفضناه سابقا وكنا هنا من أجل ذلك .
لآدم وحواء حين قررا أن الحياة إلى الأبد أمر لا يطاق فقررا برغم جميع المغريات أن يقتلا هذا الزمن الأبدي .
وهذا هو منتهى المآل , يا لهذا الأمر المضني.
هناك حقيقة واضحة تلوح:الإنسان هو دائما ضحية حقائقه وهو يهرب للوهم.
وعلى الإنسان أن يدفع شيئا ,عليه أن يكافح لكي يتخلص من الكون الذي كان قد خلقه .
إن البشر يؤلهون ما يسحقهم ويجدون سببا للأمل فيما يفقرهم .
لم تكن مأساة سيزيف في أنه يحمل صخرته في البداية ,فهو في كل خطوة كان أمله يكبر , مثل العامل الذي يشتغل كل يوم بنفس العمل ,ولكنه اصبح ماساة حين أدرك مصيره العبثي.
ولكن :
مصيره يخصه وصخرته هي شيئه هو , وهو يدفع الثمن لاحتقاره الآلهة .
بعيدا عمن ينظر إليه من بعيد ويراه وهو يجاهد في رفع الصخرة التي ستسقط مرة جديدة فهو سيد أيامه ,وهكذا فهو يستمر في سيره ,مقتنعا بالأصل البشري لكل ما هو بشري .
تلك هي الأمانة الأسمى,التي تنفي الآلهة وترفع الصخور , وهذا الكون الذي يظل بلا سيد ,يلوح له غير عقيم
فكل ذرة من تلك الصخرة وذاك الجبل بحد ذاتها تؤلف عالما.
والتسلق الباسل نحو الأعالي يكفي ليملأ قلب الإنسان.
*محمد عبد الرحمن