[1] حد بين حدين: إشكالية المسافة
اللغة تخفي أيديولوجيتها، لأنها تتستر عليها، وعلى ما تخفيه، لكنها لا تخفي سرها، فهي، في الحالة الأولى، تعمل لغاية محددة، فيما لا تمتلك اللغة إلا أن تنتهك السر، أو تدمره، أو تعلن عن عجزها في المناورة. لكن الفن ليس لغة، كعمل اللغة في الاتصال والمحاورة، وإنما تبقى الاقتراب من سبر نشأتها،بمجموع العوامل، وفي مقدمتها الإنسان ذاته. فهل الإنسان ـ كباقي الكيانات الناطقة ـ يسعى الوصول إلى الذروة: العجز، واستحالة فك المناطق التي لا تعقبها مخفيات تتطلب جهدا ً، ووعيا ً، وأدوات توازيها في الانتقال من الملغز إلى مكوناته.
و بمعنى ما فإنهما ـ لغة الفن ـ والفن الذي استدعى استخدام اللغة، يشتركان/ وينفصلان في تكوين معادلة برهنت عن تدرجها من الوظيفي إلى الديمومة، ومن المعلن إلى المتستر، ومن القابل للتفكيك إلى استحالة تتبع أثره، وقد غاب، أو اختفى تماما ً.
فالأيديولوجيات، بمعنى الأقنعة، والتصوّرات، تحافظ على مسافة ما، تتسع وتتقلص، لمن منحها حضورها، الأمر الذي يجعل ديمومة الصراع، كديمومة الحركة، تهدف إلى ما هو ابعد من السطح، والظاهر، والقناع، لكنها ـ تلك المناطق النائية ـ تمتلك كل ما سيجتمع في الأثر: الختم. وفي مكونات هويته. إنما لا تمتلك الأخيرة إلا في حالة الاضطراب أن تعلن عن ذاتها، أي في حالة الاندثار أو الموت. وبمعنى مباشر: عن الديمومة، أو الإرادة، أو الاستجابة لاستكمال الدورة.
[2] السؤال: ديمومة الاستحالة
لماذا تستحيل اللغة عند عدنان المبارك إلى (ختم): إعادة بناء ما تم حفرة، نبشه، بالأحرى محاولة الاشتباك معه من غير خسائر، وترك المعنى يعمل بآلية دورته! ولأن لاوعي الكاتب لم يتنصل عن تاريخ لا وعيه المعرفي، سمح لوعيه بالتجول في تلك المناطق. كان الختم خلاصة فلسفة أن العدالة (في الأصل) إشكالية. فالعبد ـ في المحاورة السومرية ـ لن يسمح للسيد بالذهاب أبعد من موته. وقد دوّن الكاتب السومري، في الختم، استحالة عزل اللغة عما تخفيه/ وعما تعلنه، في هذا الديالكتيك. فاللغة ـ بعد أن تقول ما تريد إيصاله ـ تسكن مأواها: هذا الذي لا يمكن تجنبه: إن العدالة لن تكمن إلا باستكمال دورة الإنسان: موته، كي يبعث، ويبعث كي يرى ما هو أبعد من موته. أساطير ديموزي تفصح عن مدى استبصار السومري للحد من التناقضات، وجعلها، بدل التصادم، تأخذ نسق التكامل. فالشقيقان، الراعي والمزارع (قابيل وهابيل مستقبلا ً) لن يقتل أحدهما الآخر، بل سيكمل أحدهما عمل الآخر. إنه سبر استثنائي لجوهر العدالة في الفكر السومري، دون إهمال أن (أيوب)، في الأخير، يترك سؤالا ً لن يجد إجابة إلا عبر ما سيضاف، ويقلب، في العصور اللاحقة. فأيوب لم يجدف، وضمنا ً، لم يول (الشيطان) ـ ولا نعرف كيف تسلل الأخير إلى مجلس الإله ـ إلا عدم الاكتراث، الذي سيراهن عليه الإله، في حواره معه. فأيوب لم يسأل: ما الحكمة من الامتحان...؟ لأن أيوب حدد وجوده بالمحدود، فهو من التراب وإليه يعود، عدا أن (النفس) أو (الروح) ستحل لغزها، وعملها، مادام الامتحان لا يخص الذات العليا، بل يخص الزمن، والأخير، لا يصح أن يذهب أبعد من زواله.
هذه الإشارة التي تعزل الزمن عن (داخله) أنتجت آلاف الأختام ـ الألواح، بما فيها من تشريعات، وقبل كل شيء: أنتجت فنها، بنية الختم، كبناء استمد قوته من عناصر الحياة ذاتها: مرئياتها ومخفياتها معا ً. ومثال أيوب، في نجاحه، لن يعّول على الزمن إلا ممرا ً حسب، أي درجة ـ مساحة، من العبور، وهو الذي سمح له أن يتساءل: من منا في مأزق! سؤال سيتكرر طالما استعاد الفن هويته، لغة تفند الوظيفة لدمجها بما لا يثير الشك، في مواجهة فنائه.
[3] سِفر الفناء
كما يعمل الختم ( تجانس عناصر: الوعي/ اللغة/ الزمن/ الوظيفة، وضمنا الهيئة مع ما يذهب أبعد منها) ـ لكن ليس بالمعنى السوريالي: سبر مناطق اللاوعي/ أو اللاشعور، في إشارات لبريتون وبياناته، بل بقلب السوريالية وجعلها لا تترنح، بل تعيد صياغة المسافة ذاتها بين نهايتها والمقدمات ـ فإن عدنان المبارك يفتتح قصته (سِفر الفناء) باستشهاد لإميل سيوران، بما يصح أن يكون خاتمة: "كان هناك زمن حين لم يكن أي زمن". فماذا يستطيع، غير (الختم/ اللوح) وليس النص كما تداولته الحداثة الأوروبية وصنعته ـ أن يبنيه. فما ـ هو ـ غير الزمن ـ سوى الوجود خارج اللغة، وخارج أية وسيلة للتقدم، أو حتى للارتداد ، أو للمراوحة. إنه ليس العدم ، إلا إذا كان العدم ، بحسب فلاسفة بابل، ذروة إرادة الآلهة. وهذا ما تحول إلى إشكالية عند الهنود، عندما اضطروا لوضع حد بين الصفرين. إنما، في الأصل، كان ثمة ما هو سابق على الزمن: أي الذي لا تستطيع اللغة أن تمنحه وجودا. فهل ستأتي التكملة فائضة، للبرهنة أنها كانت قد بلغت خاتمتها، في الأصل، أم لأن الكاتب، عدنان المبارك، لم يغادر مفهوم لغز تكون بذرة الخلق الأولى ـ لأنها لم تعد حتى بعدم تدخل الآلهة أو عدم وجودها في الأصل: تحكم دورة البذرة، دورة المفتاح في القفل، فيغدو السَفر/ الرحلة، كواجب الوجود ـ ولكن للذات في مواجهة فنائها، فينغلق السؤال بالإجابات. فالسومري كان منتبها إلى أن شفرة الإجابات كامنة في السؤال نفسه، وهذا ما سيقوله ماركس، بعد خمسة آلاف سنة. بمعنى: أن العدم وجد امتداده في المساحة المشغولة بالزمن، كي تتحدد المعضلة في إطار: العناصر ـ وحركتها، وليس بفنائها. فالإنسان غير مخول لذلك، الأمر الذي دفع بالكاتب السومري للتفريق بين أهداف: عناصر الخلق، وبين مفهوم الخلق. إنها مسافة توارى فيها العدد بين أن يضع الصفر إلى اليسار أو إلى اليمين. لأن المعادلة تامة، في أصلها، أما ظاهرها، فإنه سيحافظ على زمنه، وتاريخه. وضمنا ً كل ما يتعلق بالعدالة: لماذا حكم الموت سابق على الولادة ! وهو الذي شوش ـ وشكك، في منطق يحاول بناء تصور للآلهة، أو لدورها في تكبيل المحدود بالطاعة، والشقاء، واللا متوقع، تزكية للذي يستحيل أن يكون له وجود، لا بالتأويل، ولا بالصورة، ولا حتى بالمشفرات ! الختم الذي سيعيد بناءه عدنان المبارك، يدمج ثقافة (كلية) تمد الذات لمغادرة الزمن، كي لا تحصل أو تجني على ما كان جلجامش يبحث عنه، بل عن دحض وهم هذا الذي لا وجود له، إلا في حدود الزمني ـ وقد كانت خاتمته سابقة على الحضور.
فهل يمكن أن ترفض الولادة، وهي مكبلة بالصفر، أي بانعدام الإرادة، إن إميل سيوران يسترجع تاريخا ً ينسج بنسقه هذا الذي تحول إلى (ختم/ لوح) لدى المبارك : العدد بين الصفرين!
[4] عودة إلى سِفر الفناء
ليس لأنها حملت عنوان المجموعة القصصية، وإنما لأنها تمتلك مفهوم الصدمة، في مواجهة الاحتواء/ الاندماج، أو الرضا بما هو سابق على اللغة، أو بما هو أبعد منها.
فمختار محمد المظهر، ولد ونشأ في بقعة نسيها الله والشيطان معا ً. لكن غدا عضوا ً في عالم سيعمل في استعادة لغز حياته. إلا أنه سيدرك كم هو محكوم بالقيود، في مشهد المراقبة، والمحاسبة، فهو لم يعد نسيا ً منسيا، لكنه لم يغادر مساحتها. إنها المعادلة ذاتها الأولى: المطلق ـ والمحدود. فيهما مقيد بالآخر...؟ إنما السؤال هو: ما العمل... وليس أين يكمن الخلاص. لأن السؤال لم يعد منفصلا ً عن الإجابة، لأن التطبيق لن يعدل ما تمت برمجته. والباقي تتمات للأصل: النسج ثم التفكيك. وهو الذي رسم مسافة هائلة بين الوعي والمصير. لقد أدرك، وهو المراقب من قبل أجهزة تعرف ماذا يعمل، عبر تأسيس جماعة لا ترى أملا ً في التعديل، ولا في الإصلاح. فالإنسان حيوان مزمن، ووجوده ليس إلا وجودا ً قهريا ً، والحياة برمتها مبرمجة بأنظمتها (الكلية/ وحرية الإنسان مقيدة بها ضمنا ً) من اللاحافات إلى أدق اشتغالات الدماغ، ومن العدم إلى الوعي، لكن ليس بالعدم، بل بظله. هذا النموذج ـ وهو واحد من ملايين فرّوا من منافيهم الوطنية نحو العالم، المنفى الأكبر، ولكن، قياسا ً ومقارنة بالمعنى، أو بالجوهر، سيبرهن باستحالة وجود حقيقة. إنها لعبة برمجة تعيد صياغة ما دعاه ( توينبي) بالتحدي والاستجابة. إنما سيدرك أن شيئا ً مستقيما ً لن يتحقق مادام الأصل بدأ بقطعة خشب معوجة (استشهاد آخر بعمانوئيل كانت) يوضح، أن وعي مختار محمد المظهر، لم ينشغل بتفكيك اللعبة. فكلاهما، الله والشيطان، يعملان خارج الضحية!
مرة أخرى يبرز (أيوب) في المشهد، ليس رمزا ً للمعنى في تحمل ما لا يحتمل حسب بل للبرهنة أن الشيطان لا يعرف ماذا يعمل، كما المركز، بصفته مطلقا ً، لا يعلن إلا ما كتم. فالشيطان لن ينجح (لكنه نجح في القصة) بإيذاء البشر، وإثارة غيظ الله. لأن ما سيسمى بالزمن لن يغادر سِفر فنائه : عقمه، فهو باطل في الأصل، وفي الأصل، كان السومري قد فرق بين من خلق (تحت)، من الوحل والدم، والآخر، الذي لا تدركه الأبصار. لكن الله لن يخسر، والشيطان لن ينتصر، إنما القصة تحكي باللغة، الإطار ذاته في محاورة العبد والسيد، وفي محاورة المتفائل والمتشائم، مثلما في أسطورة أيوب: لن يحصل الإنسان إلا على المسافة التي هي مجموع الاندثارات. فالخسارة وحدها هي أعلى درجات الكسب، مثلما الصمت هو أعلى مراحل الحرية !
أين هو الختم في قصة لم تكتب لرفع معنويات مخلوقات رازحة تحت، في المستنقع، الذي هو الوضع البشري، ولم تكتب لتمجيد الوهم، أو المضي أبعد من برنامج (العشوائية) في عالم يتعرض لأزمات تراكم رؤوس الأموال، وفي وضع لن يدور المفتاح في قفله، إلا بمزيد من الهدم، والتنكيل، والمحو.
إن القصة تعيد للذهن أن (العادل المعّذب/ المعاقَب من غير سبب) المطرود بوشاية أو لأي سبب، لم يخن دوافع النعمة التي فقدها، وغدا في الجانب الآخر، مع (القطيع/ العامة/ الناس) لكن ـ في سِفر الفناء، يترك القاص نموذجه يستعرض عبارات منتقاة لحكماء وفلاسفة، وهي عبارات مدوّنة في ألواح الذاكرة الحضارية ـ الثقافية العراقية، قبل أن يخترع الانكليز العراق الحديث، وقبل أن تحاول أية قوى تجديد هذا الاختراع تحت عناوين أخرى ـ بمعنى أن الكاتب ـ بوعي أو بتفكيك قيوده ـ يعيد صياغة الحكاية ذاتها التي تحدث في كل زمن، والتي تحدث في كل مكان، إنما، اشتغل الوعي، مرة أخرى، كوعي جلجامش إزاء الموت/ وكوعي أيوب إزاء المعاقبة/ وكوعي العبد إزاء سيده القابض على مصيره/ فالثنائية/ والتعارض، لا تتكرر كي لا تبدو الحياة فلما (هنديا ً/ أو مسلسلا ً مصريا ً أو تركيا ًيفجعانا بالمواعظ أو الغوايات/ أو انتصارا ً أمريكيا ً ملطخا ً بالرماد والخراب/ أو صينيا ً قادما ً محملا ً بالوعود والآمال ) في تصوير امتدادات حكاية مشحونة بما هو أبعد من الصخب ـ كما في ولولة بنجي فوكنر، وليس هو الموت ككلب كما في خاتمة رواية ( القضية ) لكافكا، أو نهاية وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا ـ وبما هو أبعد من المعنى، لأن الأسئلة لم تعد متعلقة بالإجابات، وليست مرتبطة بأصل نشوء خلايا الحياة في عفن الكهوف أو في المستنقعات فحسب، بل الوعي راح يحفر في كل ما لا وجود له، كي يدلنا على أعذار أنتجت هذا الانشغال، المحكوم بالخسة، والخوف، وليس بالحزن أو الأسى ـ بحسب الحكمة الصينية القديمة ـ وهو الممهد لدرب امتد من العدم، كي يستكمل دورته، كما قال فلاسفة العراق ـ قبل أن يصاب البلد باليباب عندما اختاره الإله أنكي الرجل المخصي والمرأة العقيم سلالات لا تعمل إلا على إدامة سِفر فنائها ـ وتجمعت فيه، كما في ألواح الحكمة ـ من سومر وأكد وبابل وأشور وصولا ً إلى آثار دماء ضحايا كل من سعى إلى تدمير العقل، والإرادة، والمنطق! فالشيطان القديم سيجد تحديا ً دائما ً طالما التراكم سيقسم البشر إلى متضادات، تحديا ً يسمح له بالمراقبة، كي لا ترى الضحية كم الجلاد توغل بعيدا ً في العدم، لأن لذّات الجلادين وحدها غير قابلة للتصالح مع الزوال، ذلك لأنها لم تر أبعد من باطل الأباطيل: البشر في مواجهة كراهية تضع ـ بين حين وحين ـ العالم عند حافة دورة من دوراته.
[5] المقدمة: الختم يدوّن/ الختم يمحو:
[1] الختم الذي ينتظر الشرح، التفسير، شبيه بالختم الذي تحول إلى أثر، لا يمدنا بغواية التأويل، وتدشين مساحة للتقدم. فعندما تم عزل الشجرة في الغابة، عن الشجرة في النص الفني، لم يلغ أحدهما الآخر، كما أنها ليست شبيهة بعلاقة مرآة تراقب من يحدق فيها، أو من تحول إلى مراقب للمرايا. إنها حدود تشترك بنظام كلما توغلنا فيه ازددنا إصرارا ً للذهاب أبعد منه. فليس ثمة لا حافات للذي بدا لنا خاتمة: ختما ً، أو دماغاً، أو جسدا ً، أو قصة.
سأعترف لنفسي ـ بالدوافع ذاتها لدى عدد من بناة المجتمعات المعرفية ـ على صعيد الفن أو ما تنتجه اللغة ـ إنني عندما أتمكن من فهم القصة أو الختم أو ما بين يدي ـ أكون قد أضعت زمني! و في الوقت نفسه، أضطر للتعويض، في دحض ما بدا لي إدراكا ً، أو فهما ً، أو معرفة!
عدنان المبارك، سمح لي أن لا أعزل أية ذات (مركبة عبر تاريخها وليس أنها مازالت خالصة العناصر) عن كل ما كّون ـ ويكّون ـ مجموع الأجزاء. سمح لي أن أتلمس إضاءة تقول إن شكسبير أو دانتي أو المعري أو كافكا أو ألنفري أو أيا ً من دخل في بناء الكاتب، وفي بناء ختمه أو نصه ..الخ كلهم (أدوات) لإنتاج أدوات: فمنجزاتهم لا يمكن عزلها عن عناصرها اللا محدودة التي تبلورت بإضاءات بدت لنا كما ظهرت صورنا في سطح ماء ِ لا يتحرك. إنه لغم. لأن الأخير لم يهبط من مجرة أو من نجم لا نعرف عنهما إلا أنهما فقدا وجودهما قبل بضعة مليارات سنة ضوئية. فلا وجه في الماء، وصورنا لا تحاكي الأصل. سمح لي الأستاذ عدنان المبارك أن أستعيد تاريخ عدد من (العلامات) مع (صانعيها) في دينامية لا أمتلك منها إلا الأدوات التي تسهم بهدمها، وإعادة بنائها، وكأن الحرية وحدها المفتاح الذي يدور في القفل، يدور كي لا نغادر، وكي لا نندمج في التيه. الدنيا.
فالكاتب يرث المفهوم الذي نقل العالم من الخرافة إلى العلم، من عالم نراقبه إلى عالم يحتجزنا، من موقف التأمل إلى موقف النسف والتفجير، من دنيا نحبها إلى دنيا تبغضنا، فتفككنا إلى أجزاء، لتمحونا. فالكاتب يرث خلاصات علوم ومعارف ومحن ونكبات كانت اللغة ـ واللغة تحديدا ً ـ أداته في بناء موقعه في سياق حركة الكل الكوني/ البشري/ والشخصي. إنه ـ في مقدمة مجموعته القصصية ـ كما في ( سِفر الفناء ) ـ يشتغل في تفكيك الألغام، كي لا يزيلها، وكي لا يدفن أخرى في الدرب، بل يستجيب لرهافة وجد أنها معادية لموت يزحف عبر التلوث، والانتهاكات، والرداءة. المقدمة تصوّر البنية ذاتها التي كونته ا؟ النص (الختم هنا) ليس علامة موت، بل هو علامة مرض: ذروة بلغت درجة تتستر على ما فيها من عدل غائب، أو لا وجود له. إنه ـ النص ـ لا ينتسب إلى كاتبه أو عصره أو باقي خامات البناء فحسب، بل إلى كل ما يخص الاستجابة لمغادرة القفل الذي دار فيه المفتاح. هل الإنسان مرض لا يرجى الشفاء منه ...؟ فرويد قال إنه لم يخلق ليبني حضارة أو أن يكون مهذبا ً...نيتشه دعاه بالجرب أو بالجذام، كارل ماركس أرجعه إلى خلايا تكونت من عفن المستنقعات، داروين العميق الإيمان بالسيد المسيح راقب الأثر، أثر هذا المخلوق، ولم يجد ـ وهو لم يكن شيوعيا ً أو زنديقا ً أو كافرا ً ـ إلا سلسلة متعاقبة من الآثار، آينشتاين تخيل أن الجنس البشري مع الكائنات الحية الأخرى، كبقعة بكتريا في جسد ضخم، أنجلز تحدث عن العائلة المقدسة، ولم يكتب حرفا ً واحدا ً عن العهر، أو عن تفكك العائلة ، ولم يبشر بعولمة تسحق، في الأخير، ذاتها...النحات العراقي منعم فرات تصّور الإنسان مخلوقات وجدت في سرداب خال ٍ من السلالم، ومهمتها أن تفترس بعضها البعض الآخر...الخ. عدنان المبارك يمسك بومضات متوهجات (العقل)، مع حواسه، أو مجساته، ومع قواه الخفية، إزاء عالم يزحف نحو نهايته. فهو يدوّن رؤيته استنادا ً إلى الوثائق، و الحقائق. فسكان الأرض اليوم الذين يسكنون القرية الصغيرة يجهلون أنهم سيبلغون النهاية بأسرع مما يتوقع علماء التلوث، وخبراء المجاعات، وأطباء الأعصاب، ومعلمي الحكمة. هل يغلق الإنسان فمه ـ هذا إذا كان للفم وجود ـ وهو لم يعد يفكر بخلاص ذاته، كي يرسلها إلى ركن جميل في فردوس دانتي، أو ملتن، أو إلى حديقة أو مدينة فاضلة لا وجود لها إلا عبر التصورات/ الكلمات ومشفراتها، إنما هو يتحدث عن أشجار العالم، ومدنه، وحيواناته، وعن الهنود والملونين والمنبوذين وسكان البراري، ويتحدث عن منفاه وعن المنافي وهي تتحول إلى علب وأسواق واستهلاك وهواء ملوث مدمر للمناعة وللعناصر وللجنس البشري، وللحياة برمتها. إنه عمليا ً لا يتكلم، لا يعظ، بل يحفر، يكتب. وقد عمل ـ عبر موقع القصة العراقية ـ للاحتماء بمأوى لا يريد أن يتحول إلى قبر في مجرة يدوم زوالها وحده وقد دحضت كل خلود! على أن للزوال لغزه، وخلوده، وهو يسكن الموت المنبثق من الموت، حيا ً، كوليد لا يعرف أسيقوم بإنزال عقابه ضد العالم وضد البشر أم عليه تحمل ما لا يحتمل! ما ـ هو ـ الفناء ـ وما هو ـ الخلود، عندما لا يمكن عزلهما عن الكلمات، عن اللغة، التي تصطدم بـ: العلة التي لا علّة لها!
[2] في مقدمة مجموعة ( سفر الفناء ) تصل إلى الكاتب إشارات من قارئ مجهول. و ببساطة، لا يوجد مثل هذا القارئ. إنه المجهول الذي سكن الكاتب، فراح يصغي إليه، ويعيد تدوين صوته. فالكاتب يسمع نفسه ـ سقراط كان، وقبله وبعده يتحدثون عن هذه الأصوات/ الحكيم أو النبي (ماني) كان يقول إن الإله نفسه أملاه عشرة كتب/ وبتهوفن كان يؤلف استنادا إلى الأصوات الداخلية بعد أن أصيب بالصمم/ وخبراء الجملة العصبية، بعد تفكيك الدماغ، يقولون إن الأخير لا يعمل إلا كعمل المجرة، بل ـ ربما ـ كعمل المجرات ـ ليس محض خلايا وآليات عصية على الإدراك فحسب، بل مازال يجرجر صاحبه لاستكمال اكتشاف ما لم يكتشف بعد. وحسنا ً مر الكاتب سريعا ً بأصول حرفته وببعض عاداته في الكتابة، كي يلفت نظرنا إلى: يا لها من بهجة ـ كتابة كتاب! فالكتاب ـ الختم/ الجسد/ النص ..إلخ هو الكل في الجزء، وهو الجزء في الكل: هو من يحدق في المرايا، وهو المرايا تدوّن، تحفر، تتوغل/ تصنع/ وتنجز مصيرها زائلا ً، وقيد الزوال، في ديمومته وليس في خلوده. فالخلود، لغة، الهامد، الساكن، الذي يستحيل أن يكون له وجود! مرة أخرى يمسك الكاتب بلذّة طفل يكتشف أن أمه ليست هي التي ولدته، إنما، هي التي ستعلمه كيف يؤدي دور صانع الولادات. فالعالم رحم، أنثى، والذكورة علامة ملحقة بها، وما إن تعزل عنها، حتى يتم استعادتها لعالم يدوم زواله، حيث الأثر وحده يؤدي دوره: دور الذي جندّ الموت، لعبره.
هل بلغنا الذروة: لا كتابة بمعزل عن أسبابها؛ كتابة خالصة، أو لنناور: جمالية، بالغة الصفاء، لا أيديولوجية، لا إعلانية، وغير قابلة للتداول ـ الاستهلاك ..إلخ، بمعنى: لا كتابة أبدا ً!
إن عدنان المبارك لا يتوغل في زمنه، ولا في ماضيه، بل سمح لنفسه أن لا يتخلى عن المصير الذي بناه، بالخبرة، مندثرا ً، إنما، في هذا الزمن، يكمن، كالذي يكمن في الروح ـ وليس خارجها. فاللغة، بالحدود التي تعمل فيها، تتستر على زمن سابق عليها. مرة أخرى تبزغ (الميتافيزيقا) ـ أي كل ما هو وراء الظاهر، وكل ما هو سابق على التجربة، وكل ما هو غير قابل أن يصبح واقعا ً ـ بصفتها سابقة على ( اللغة )، ولكنها، في التجربة، لا تمتلك شيئا ً ( في ذاته). إنها العدم ممتدا ً، أو الموت وقد غدا جذرا ً لا متناهيا ً لشجرة الحياة الخضراء !
[3] يتوقف الكاتب عند (مستنقع النشر العربي) عمليا ً، يفصح وعي الكاتب عن دحض متواصل لحياة حكمت بحدود المنفى. ببساطة يمكن تذكر أمثلة بين ما حصل في أوروبا، مع اختراع الطباعة، قبل خمسة قرون ـ أي مع عصر النهضة في إيطاليا ـ وما شخّصه. فثمة دار نشر واحدة في إسبانيا، تصدر خلال سنة ما يعادل ما تنشره دور النشر العربية لعقود، و بضمنها ما تنشره وزارات الثقافة العربية ذات الموارد الخيالية. لكن الكاتب العربي ـ وليس لدي استثناءات ـ مكث يعمل بآليات من أدركته حرفة الأدب: شحاذا ً أو تابعا ً لا يؤدي إلا دور العبد، العبد غير المتحرر من سيده، الموظف في مؤسسة يؤدي ما تطلبه منه، لا ما يطلبه منها. ومن النادر أن يتخطى الموظف/ العبد المستأجر، حدود عبوديته إلا عبر التماعات يصعب أن تتحول إلى فعل (تأثير ) أو إلى (علامة) إلا بالاستثناء، القريب إلى الإعجاز. فهي تولد ماضيا ً. وليس أكثر تمويها ًمن دور ما يسمى بالمنظمات الدولية ـ في شتى المجالات الإنسانية أو الثقافية ـ إزاء حياة الكاتب العربي، وإبداعه. فأي دور لها، عدا فعاليات خجولة وبعض البرامج الشبيهة باستبدال وجوه بأخرى. مما يجعل نداء عدنان المبارك مشروعا ً يوازي استذكار ضحايا المشتغلين في هذا الحقل، لقرون من الزمن. ومما يسمح لدور المواقع ـ وهي قطعا ً لن تسلم من المراقبة والمعاقبة ـ بتدشين مساحات مكثت مجهولة، إنما، تضامنا ً مع بعض التيارات الثقافية الأوربية، وفي أمريكا الجنوبية، وفي باقي مدن العالم، بالإمكان أن يكون لها صدى ما، ما دامت تتغذى بالمستحيلات ذاتها التي صاغت فلسفات، وآداب، وفنون أوروبا ـ أوروبا غير المدججة بترسانات أسلحة الدمار وسحق حريات الشعوب ـ بل برموزها، وعلاماتها الجمالية، من بودلير إلى بوشكن، ومن إدغار الآن بو إلى ماركيز، ومن وليم بليك إلى أراغون، ومن رامبو إلى إليوار، ومن دستويفسكي إلى فان كوخ، ومن نيتشه إلى ماركس ...إلخ ، ذرات فاعلة داخل فرن اسمه: الحداثة، بما يعمل أبعد مما يحدث في نجم يتوهج لملايين السنين، دون أن ينفد.
مقدمة لا علاقة لها بالقصص، كما يبدو للوهلة الأولى، لكنها تعمل على هدم العزلة التي يعاني منها كتاّب عالمنا الفقير، الثالث، المشحون بالفوضى والرماد، بسفك الدماء و بهدر الثروات، مع العالم، وكي تكون لإسهاماتهم جدوى، وهم يعاملون كأتباع للشيطان تارة، أو كعبيد لحداثات العالم تارة أخرى.
[4] هل انتهى زمن النشر الورقي...؟ يلمح الكاتب، وهو يرث طرق بعضها مازال يحمل أصداء قريبة، وأخرى نائية، وثالثة مشفرة، ورابعة ستنبثق، إلى وجود لا معقول لن يقارن بما تم إنجازه من تجارب ارتبطت بحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى: من الدادا إلى ما بعد السوريالية؛ اللامعقول ومسرح العبث واللا رواية، الشهادات الشبيهة بموقف أيوب في مأزقه (لأننا لا نعرف بالدقة رؤيته إلا عبر ترجمات لسومرية مندرسة) إذا كنت نجوت، فمن يكون قد خرب العالم، مادمت، يا إلهي، قبلت بالرهان!
فـ (مستنقع النشر العربي) شبيه بواقع الزراعة، والصناعة، وبالمعايير المختلفة للمجتمع العربي، لم تجتز عصر النار! ولا ضرورة للشرح. لكن النشر العربي، كبعض المستحدثات ومنها وسائل التعذيب، تأسست بفعل خبراء أجانب، من ( المعسكر الاشتراكي ) في الغالب، دون إهمال خبراء دول الحداثة الديمقراطية، ليقولوا: عليكم، للحصول على القليل، أن لا تطلبوا شيئا ً. دعوني أعيد صياغة عبارتي بأسلوب آخر: كي يحصل الإنسان على حقه بالحياة، عليه أن لا يطلب شيئا ً. فالمشهد العام لم يسهم بترويض صانعي الكتب، بل في زجهم في السيرك (المستنقع العربي). وإذا كانت هناك استثناءات، فإنها ستبرهن على أن القاعدة، كحكاية سيزيف، المسبوقة بنصوص عراقية قديمة شبيهة بها: لا حياة خارج الصخرة، خارج تعاليم المعبد! إنها عودة إلى الجذر: أيوب، ضمنا ً سأل إلهه: هل عظمتك كانت تتوخى هذا الرهان، الامتحان، وهل أصدق أن الشيطان مارس أفعاله الشريرة للذّة شخصية وهو العارف أن خاتمته، لن تقارن بخاتمتي، أم اصدق أن نجاتي في الرهان، كانت ضرورية لمجدك! أنا الذي تنعمت بنعيم قصرك، لكني طردت منه بسبب وشاية، صاغتها يد كاتب التقارير، وما سيسمى بعد ذلك، بالعين، والمخبر السري، أو الرقيب، أو الشبح، ومهما تعددت الأسماء، لكنها ـ في النهاية ـ حولت عبدك إلى يد تمتد كيد شحاذ مجذوم أعمى مجدور تطلب قليلا ً من الرحمة.. وممن، من أتباع الشيطان، وليس من أتباعك!
عدنان المبارك، في حديثه الجانبي عن مستنقع النشر العربي، ذكرني بعبارة قالها لي جبرا إبراهيم جبرا، أنه لم يطبع إلا مجموعة واحدة على حسابه، ذاق بسببها اللوعة، فقرر أن لا يطبع ـ على حسابه ـ كتابا آخر. لأن صرخة الكاتب لن يسمعها أحد، وعندما، لسبب أو آخر، يجتاز مساحة الاشتباك، فإن الآخر، يكون منشغلا ً بالصمت! فأتساءل: ما جدوى النشر الورقي، في مجتمع ولد ـ بعد الحرب العالمية الأولى ـ محتضرا ً، محتضرا ً وليس ميتا ً، ميتا ً ولكن ليس بانتظار البعث!
سؤال الكاتب يعمل على خدش أهرامات الموت. فالناشرون، وضمن مؤسسات الأقاليم المنشغلة بتعميق خنادق عزلتها بعضها عن بعض، وعن العالم، والحفاظ على عادات عصر ما قبل اكتشاف النار، يعرفون ماذا يريد الكاتب ـ غير العبد المستأجر والموظف والتابع أو من أدركته مهنة الأدب، المخصّي أو المكبل بالقيود، والذي تنازل عن أحلامه تحت التهديد ـ وهو يتحدث عن أسفار التراب، وواقع المخلوقات الممحوة، أو التي هي قيد المحو! فالشعار: دعونا نصف موتى، هو الجسر ما بين الناشرين والكّتاب. إنما ـ في النهاية ـ لا تحقق الرداءة نصرا ً، ولا جدوى من الثناء على الأوثان التي خاطبها أيوب!
[5] أنا أيضا ً لا أريد أن أشبه نفسي، لا أريد أن أستنسخها، ولا أريد أن أتتبع من وجدتهم يقودونني إلى المجهول. قررت تأجيل قراءة المقدمة، لأفكر:هل أستطيع أن أبلغ الذروة التي بلغتها بعد عام 1990؛ الثمالة حد الصفر، عندما نشرت شيئا ً شبيها بما ورد في قصة سِفر الفناء: الصمت أعلى مراحل الحرية! وكان عنوانا ً لمقال نشرته في الجريدة التي أشرف على صفحتها الثقافية. فلم أصدم ـ وأنا في الصفر ـ إلا لعبارة نطق بها رئيس الجمهورية، قال ـ وكنت أراه يحق في ّـ: الشهادة أعلى مراحل الحرية! لم أعد صفرا ً! لقد أدركت أن شيئا ً ما في العدم يتململ، ينمو، ويقترب مني. ما ـ هو ـ تبريري، وما هو المشفر في العبارة الذي علي ّ أن أعلنه، أو لا أعالجه بكتمانات إضافية؟ مضى الليل، وتبعه نهار، ليل ونهار، وثالث ... فقلت لنفسي: ما الفارق بين الصمت والشهادة أو الموت بين يدي ّ حبيبة ...؟ كلها كلمات، كلمات، كلمات. فالشهيد بصمته أيضا ً يبلغ الدرجة ذاتها بموته: الحرية! ما الحرية إذا... إن لم تكن السوط الذي يخرج النمل من باطن الأرض كي تسحقها بساطيل جند سليمان، ابن الملك النبي داود، والتوراة حكت القصة كاملة ، لكن بعض دعاة الإيمان الراسخ سيقلبون المعادلة ، بغياب الألواح. حسنا ً، إن الحرية لها سوط لا يمسك به من سيذهب فداء ً لها، إنما لدى الآخر، سمو الأمير أو حضرة الجلاد أو فخامة الرئيس أو جلالة الملك، في أي زمن وفي أي مكان، فإنك تعرف أنه لا يقود خرافه إلا إلى المجزرة. فهل أستطيع أن أفك لغز العبارة التي نطق بها نموذجي في قصة (عربة الحصان الميت) ـ 1996 ـ عندما قال، بعد أن شاهد زميله يُقتل أمام بصره ـ: لقد أمضيت نصف قرن أفكر، كي لا أفكر! ( وعندما تحدثت بها إلى زميل.. عام 2004، قال: كيف نجوت من الموت!/ علما أن د. علاء حسين بشير أنذرني بحجزي في مصح إن لم أترك الصفر الذي بلغته ـ طبعا حرصا ً منه علي وليس تهديدا ً).
هو ذا الفارق ـ أستاذ عدنان ـ بين كائنات تفكر، وأخرى لا تجيد حتى استثمار ما أنتجه الفكر البشري، إن كان مصريا ً أو بابليا ً أو صينيا ً أو عربيا ً أو أوربيا معاصرا ً... هو ذا الفارق ـ أستاذ عدنان المبارك ـ بين إنسان يفكر، وآخر لا يجيد حتى تعلم ما يفكر فيه الآخر! بل الفارق، أنك لن تعاقب فحسب، إن فكرت، بل تعاقب إن لم تسلك الدرب الأعمى الذي رسمه لك!
[6] لم أنشغل بإعادة تحديد مفهوم (الواقعية)، وإن لذّ للكاتب أن يمر بها، فالواقعية، أي كل شيء من الواقع، كالوجودية من الوجود! لأن عملية الوصول إلى أكثر المناطق بعدا ً لن يمر إلا بالحلول السلسة، الواضحة، غير المركبة! فانا لا أعرف هل هذا الذي يدور في الذهن، هو من صنع الواقع، عندما أدرك استحالة أن تذهب الكلمة خارج عملها، وطاقتها. لأن ما بعد الواقع، ما فوقه ـ عند السومريين ما تحت الأرض/ في العالم السفلي/ لأن الأعالي من نصيب الآلهة ـ خاص به. وعندما أخبرنا رائد الفضاء السوفيتي غاغارين عن زرقة الفضاء الأثيرية ، للمرة الأولى، كانت بمثابة حقيقة. فالواقعية تصنع الحقيقة، لكن الأخيرة، ليس لها مفتاح واحد. لأنني بالضرورة أكون مسؤولا ًعن تتبع الكاتب في اشتباكاته العنيدة، فقد يكون الواقع ذاته لغما ً، وقد لا تكون الحقيقة إلا بما يأتي بعدها. فأنا أجهل أنني أعرف حتى هذا الموقع الذي أنا فيه، بين عدمين، وبين فضائين بلا حافات. فما هي الحقيقة ...أم هي حدود من يفكر فيها، وهي حدود من لا يفكر فيها...؟
جميل ـ للغاية/ وأنا كنت أسميها اللامبالاة الأجمل في حواراتي مع أستاذي مدني صالح فكان يقول لي: اصمت ـ أن تتحول الرقابة، والمحنة، الاستحالات، والميتات، والأمراض، والوشايات، والإهمال، والتنكيل، والفقر إلى ما يشبه من فلت من الجحيم: عقاب الضمير، وعقاب الألم، وأحيانا ً ما هو إلا نتيجة أعراض هلوسة مركبة لا بسبب الحواس، بل بسبب عمل الدماغ، عندما يستخدم لا وعيه في العثور على دفاعات نائية، وغير مرئية! فعلماء عصرنا يتحدثون عن أنظمة التفكير لدى الأشجار، وعن أحلام الطيور، وعن الصلات الفائقة بين الموتى وبين من لم يولدوا بعد، وعن اتصالاتنا بمناطق لا تحصى في الأكوان، وعن استكمال قضية فشل فيها أسلافنا في البحار كي تجد من يكملها بعدنا بدهر من الزمن، عندما ندرك أن (الدماغ) ليس محض شبكة اتصالات بين مراكز بعدد نجوم درب التبانة يعمل على مدار الساعة فحسب، بل لديه اختصاصات لم تكتشف بعد كالاتصال بمن ماتوا قبل ولادتهم! وإلا لماذا هذا التبذير في بذر بذور الحياة ...عندما تخصب البيضة الواحدة بواحد من تلك البذور وبنسبة واحد إلى بضعة ملايين، هل الطبيعة حمقاء !
هذه ليست فنتازيا .. إنها واقعية، استبعدت مبدأ توزيع الظلم على السكان، كما اتهمت الاشتراكية بذلك، كي تحصر الرقابة بنسبة 5%، وليذهب الجميع إلى الجحيم، جحيم الفاقة، وضعف المناعة، والخوف، والذل، ومن غير رحمة... لأن الـ 5% ـ منذ اكتشفها حكماء الصين القدماء ـ برهنت على أن العدالة، كالحرية، كالحقيقة، كلمات، كلمات، كلمات يمسك بها الأقوى، والأكثر مكرا ً، والأكثر خسّة، وتلونا ً،وبراعة في صناعة الأقنعة...إلخ ، وكي يتنعم بها الآخر، أو بظلها أو بطيفها أو بوهمها، لكن في احتضاره المستديم!
[7] حاولت أن أعثر على مقدمة كتبها قاص عراقي، خلال القرن الماضي، فلم تسعفني ذاكرتي، بمقدمة، مع أنني كتبت مقدمات لدواوين شعرية! لكن لم يطلب مني على صعيد القصة. ولأن عدنان المبارك ـ غادر عصر ما قبل اكتشاف النار، وعصر البرية ـ فإنه غدا كائنا ًكتابيا ً لم يعد شفهيا ً، أي غدا يعمل وفق النظام الذي كان أسلافنا في سومر قد أسسوه : الكتابة كتدشين لعصر الحساب/ الاقتصاد، وهو عصر صهر المعادن، والتشريع، وهو العصر الذي سأل الإنسان نفسه الأسئلة التي ستتكرر: إذا كانت الآلهة فائقة القوة ـ وللمناسبة كانت في صدام دائم ما بينها للاستحواذ على الجهد البشري، عبر المعبد والقصر ـ فلماذا تصر على أن تجد من يذكرنا بذلك! ولأنه يكتب، فهو لم يضع فجوات بين حياته، ومصيره، والكتابة. فهو يستشهد بنصوص، لا كي يتغذى بها، بل ليّصنع غذاءه. فهو لم يعد آلة، ولم يعد يفكر أن يصبح إلها، لأن وضوح الرؤية سيدفع به ليحدق في عالم: يأكل نفسه. والكاتب يعرف كم عالمنا شبيه بما مضى، تحيدا ً في سياق الاشتباكات ذاتها، إنما، ما هذا الذي لم يفقد شيئا ً شبيها ً بالومضات، سمح للكاتب (كإنسان) أن يقاوم الاندماج..؟ أنا أدرك ـ في اللغةـ أن مهارات الكاتب لا تكمن في الأسلوب، أو في المهارة حسب، بل عندما تولد الكلمات وكأنها تحطم أبواب الموت لتعلن عن : عيد أو نار مقدسة، الكلمات وهي تجرجر قارئها كي لا يكون شبيها ً بأحد، ولا حتى بنفسه! ثمة حقيقة أن لا ذرة تشبه أخرى، وثانية زمنية مثل سابقتها، ولا هناك فجر أو عشق أو لون لا يبحث عن طرق لم تدشن للسفر، لا للدفن. إن المبارك يعيد للتأمل حق الشجرة أن لا يعتدي عليها، كحق الهواء أن لا يعاد وينتهك، كما يتم استهلاك العناصر، والموارد، والمفاهيم، والكلمات.
مقدمة تذهب ـ مع سِفر الفناء ـ أن نفكر في (التفكير)، ونتأمل في (التأمل)، وكما قالت رابعة العدوية: أن نعثر على من يستغفر للمستغفرين! مما يسمح لي ـ ومازال قبر الأميرة شبعاد يسكن طفولتي في صحراء ذي قار ـ الاعتراف بأن مهمة الكاتب ـ وهنا الأستاذ عدنان المبارك ـ لا تتوخى خلاصه، أو حصوله على أبدية بلا حافات، أو صحة لا يمسسها الغبار، أو ذاكرة لا تخدشها الأزمنة، بل، ببساطة، أن لا يخاف من الله!
هل شططت...؟ كلا! فعدنان المبارك، في خلاياه، كما في خلايا المليارات الحالية ـ والسابقة ـ تاريخ الكلام، وتاريخ الكتابة: فإذا كانت الحياة ـ حياة البشر ـ وجدت فائضة، فهل نباركها لأنها شيّدت على الباطل، كالعتاب النادر الذي دوّنه الشاعر العظيم ملا عبود الكرخي في المجرشة: هم هاي دنيا وتنقضي ويأتي حساب تاليه! وليس (الحساب)، فالكرخي لم يحتمل غياب العدالة، لكن الحياة لم تولد من تلقاء نفسها، مصادفة، وهو استنتاج لأينشتاين، إنما لو لم يكن ثمة (ألم/ ظلم/ غبن) حد السكن عند حافات الجحيم، وتحت قاع الخساسات، أكنا دوّنا ما مكث في حدود الكلمات، وفي حدود الوعي، في الماضي المسبوق بماضي، والمستقبل المحكوم بالامتداد، إلى ما بعد كل مستقبل..؟ أكنا تمسكنا، إلى حد الموت، بهذا الذي نراه يمحو بعضه بعضا ً، بالقليل من الأمل، وبالقليل من الرجاء، وبالقليل من العدل ... أن تكون كلماتنا حربا ً ضد الحروب، ونارا ً لإخماد الحرائق!
[8] في خاتمة رواية الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا [البحث عن وليد مسعود] يستعير الروائي، على لسان احد شخصياته، الحكاية التالية:
[يقال أن أحد مريدي الحلاّج سمع صوت الناي قادما ً من البعيد، فسأل أستاذه: ما ذلك الصوت يا مولاي؟ فأجاب الحلاّج: إنه صوت الشيطان وهو ينوح على دمار العالم الذي يتمنى لو يستطيع إنقاذه. والشيطان ينوح، قال الحلاّج، لأن كل شيء إلى زوال، وهو يود لو يعيد الحياة إلى كل شيء مضى ... ولكن البقاء ليس إلا لله وحده"]
من خرّب، بالأحرى، من يخرّب العالم...؟ هل المعرفة مازالت، في اللاوعي السحيق، فعلا ً شيطانيا ً..؟ و لماذا لم يُجر تقدما ً يُذكر في توزيع (الظلم) وليس بمنح العدل بصورة مشرفة، خارج قانون: الصياد ـ الضحية...؟
و لأننا نشترك، تحت ضغوط المبرمجات المتوارثة، في نسق متجاور، فإن البحث عن المعرفة، لا يمكن عزله عن الانشغال بصناعة حياة غير خالية من الحلم. قد لا نعرف أكثر من إننا لا نعرف ( يذكرها الكاتب )، وإنما تبقى المعرفة ـ هنا ـ تخص الأداة ـ اللغة، خاصة بـ: أن عالمنا ـ ككرة الثلج ـ لا أحد باستطاعته أن يصرخ أو أن يستغيث أو أن يستنجد إلا وقد تحول إلى جزء من الخاتمة! أترانا نكبّل بمسؤولية المقدمات ...؟!
عدنان المبارك، لا يهمس، ولا يتكلم بصوت خفيض، ولكنه لا يسمح للكتابة إلا أن تبقى أداة تهذيب. إنه، كالرواد من خمسينيات القرن الماضي، برهافة ثقافة معاصرة، لم يعد يفكر كيف يخرج من المحنة/ لعبة الموجدات، منتصرا ً، ومثقلا ً بالأوسمة، والنياشين، بل يأتي (فنه) متوغلا ً في الإنسان الذي لم يعد لديه ...إلا عدمه، وليس (صليبه أو أيديولوجيته أو أسلحته أو قدراته على المحو) إزاء مليارات تشيّع مصائرها، قبل الولادة، وتحفر مستقبلها مدفنا قبل أن ـ حتى لثانية ـ أن تبصر كيف يزول العالم!
[6]عودة إلى: وجود يُستكمل بالموجودات
لم تصعد (روح) أو (نفس) مختار محمد المظهر إلى السماء، مع أنها لم تفلت من المعاقبة، مما جعله يفكر ـ في حدود اللغة أو وهمها ـ بتأسيس جمعية لا علاقة لها بكارهي البشر، إنما، بإثارة شكوك تستند إلى الإحصاء، والوثائق، والأدلة الدامغة، ضد (محبي البشر) .. فهؤلاء، منذ كانت لدينا أدلة؛ من أختام و لقى وحلي وأساور وجماجم مثقبة وعظام حفرت عليها إشارات، وشخابيط، سيواجهون دعوى رسمية لدى جمعية ـ غير تابعة للبوليس الذي حقق معه، وهو المجهول المولد والزمن، وقد نساه الله والشيطان معا ًـ تعنى بديمومة هذا الذي يتعرض للخراب، والاندثار. دعوى تستند إلى أن محبي البشر، من حكماء، وعلماء، وشعراء، وملوك، وفلاسفة، وأمراء، وتجار، وعذراوات، ومتصوفة ...إلخ ، سببوا ـ بالأرقام والصور الدامغة ـ سفك دماء لم يكن الشيطان ـ ولا الله ـ مسؤولا ً عنها، مادام ـ كما سيقول الادعاء ـ أن ما لا يحصى من المخلوقات لم تولد فائضة، أو من عمل المصادفة، لأن المصادفة بوجودها تفند أنها وجدت من غير قصد، وسيكون عبثا ً الإصغاء إلى دفاعات ـ هؤلاء محبي البشر ـ أو إلى نواياهم، أو إلى الأخطاء التي ارتكبت ضد تلك النوايا بما فيها من وعود بالغة الصدق والإمتاع !
ستكون حجة الادعاء أن الحرية، التي زعم أنها منحت للبشر، ما فائدتها إن لم تهدد نوايا هؤلاء بالذات. فليس ثمة خروج على القانون، ولا على الشريعة، وإنما السياق يحتم شفافيته، مما يستعيد الإجراءات ذاتها التي واجهت (كارهي البشر). لأن الحب، والحرية، والحقيقة، قد بلغت (اللا معنى) الخالص. واللا معنى، كما يستند الدفاع إلى كارل يونغ ليس هو حرمان الحياة من الامتلاء ـ وبحسب أيوب من العدل/ وبحسب رامبو من الجمال ـ فهو ليس إلا مرضا ً يتطلب خضوعه إلى العلاج!
وأناس الدفاع ـ وهم مجموعة لا علاقة لها بحب أو كراهية أحد ـ سيستندون إلى القوانين ذاتها التي استند إليها (محبو البشر)، وإلا كيف يتم الانتصار على الشر إن لم نؤمن به، وربما نمارسه! مع أن الادعاء لن يتطرق إلى حكماء أمثال (ماني) أو (المعري) أو (شوبنهاور) أو (نيتشه) حول أن الأصل يكمن في حامل المرض، أي المرأة، بل في اللا معنى ذاته الذي وجد من يقلبه إلى سلسلة من الأوامر، ومنها غير القابلة للجدل، أو الشك، أو المراجعة! لكن الادعاء لن يستعين بالشيطان، بل بالرب نفسه، كي يعتقد أنه يدافع عن كائنات تعمل على إنقاذ أحد، لأن هذا يتقاطع تماما ً مع المنطق. فكيف يطالب بديمومة حياة كتب عليها أن تزول، إن لم يستعن بالله ضد الله ذاته، كي تبلغ الدعوى حدود مغادرة اللغة، ليدرك مختار محمد المظهر أنه، عمليا ً، كان يؤمن بأنه كان جزءا ً من الكل، مما سبقه ومما يليه، كأن حياته منتزعة من سلسلة لا نهائية طويلة من التتابع، مما سيدفعه للاستغناء عن الدفاع، وعن مصيره، وعمن سيخلصه من ورطته، أو محنته. آنذاك، مثل أيوب، سيحدق فيه ويتساءل: ألا تعتقد أن محبي البشر، وليس محبي الشيطان، كانوا وراء هذا الخراب! لكنه ـ ربما ـ سيدرك أنها مفارقة يمكن فك لحمتها: فالشيطان لا يسكن في الكلمات حسب، فقد يجد مأواه في النور! لم يعد لدى مختار محمد المظهر قدرة على المناورة. إنه تذكر ذلك الرجل الذي صاح: يا هارون. فقال الخليفة لأتباعه ـ وكان بمنزلة أوباما اليوم وخاصة بعد خطابه في 11 سبتمبر 2011 ـ من المنادي؟ فجاءوا به. يسأله الخليفة: ها أنت تجردني من ألقابي كلها، فمن أنت..؟! قال الرجل للخليفة: إننا عندما نرفع رؤوسنا إلى السماء لا نقول إلا يا الله! لكن مختار، كما في المرة الأولى، سيتوارى. لا في زنزانة، أو يذّوّب، أو يحول إلى أثير، بل سيقول مع نفسه: إذا كنت فائضا ً، وأنا بتمام الوعي، فهذا مرده أن خللا ً ما في الموجودات، أنا كنت ـ للأسف ـ علامته! أنا الذي حسبت أن العمل في الحكمة، لن يشكل خطرا ً على أحد، وقد ظهر أن (محبي البشر) كأسلافهم، لم يبصروا إلا الذي لا يحق لأحد أن يجعل منه سببا ً لإيذاء طير، أو طفل، أو قطف وردة! أليس العدم، في ومضة، غدا أسير حركته. إنما، في الخاتمة، لا يمتلك أن يذهب أبعد منها: تلك هي حدود اللغة، الكلمات، حيث الصمت وحده بلا حافات!