كثيرا ما يختلف الناس في موقف الإسلام من الديمقراطية، هل هو يؤيدها أم يرفضها؟ ومن فترة كنت أتابع برنامجا تلفزيونيا عن الديمقراطية والانتخابات، وإذا بمتداخل من المشاهدين يتصل ليقول له إن الدين لا يؤمن بالديمقراطية، لأنها حكم الشعب، والدين يقول: (إن الحكم إلا لله)، ودار بين ضيف البرنامج والمتصل كلام….
ولأن مفهوم الديمقراطية بمعناها المعاصر مفهوم لم يعرفه السلف، فقد وقع خلاف في الموقف منها بين الباحثين، فمن قائل بأنها توافق الدين، ومن قائل بأنها تعارضه، وموضوع كهذا يحتاج إلى بحث مطول، ولكن هذه ثمة ملاحظات في الموضوع، لعله ينتفع بها من يبحث في هذا المجال.
أولا: إن نقيض الديمقراطية هو الديكتاتورية، فإذا قلنا إن الإسلام لا يتوافق مع الديمقراطية يجب أن نقول إنه لا يتوافق مع الديكتاتورية أيضا ولا الاستبداد، وكان الشيخ عبد الرحمن الكواكبي قد نبه إلى تناقض الاستبداد مع الدين في كتابه (طبائع الاستبداد)، وهذه نقطة غاية في الأهمية، وذلك حتى لا نجعل دين الله في صف المستبدين وهو الذي قاومهم، فندد بفرعون كحاكم ظالم مستبد، وندد بالظلم والظالمين، ودعا إلى العدل والشورى وحقوق الإنسان، قال تعالى منددا بالطاعة العمياء للطاغية فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف:54)، وقال مستنكرا بطش فرعون وسياسته: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:4)، وقال منددا بعموم الظالمين: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42)، وقال آمرا بالعدل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58)، وقال يحث على الشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38).
ثانيا: إن حكم الشعب يجب أن نوضح هنا هوية الشعب، فإذا كان مسلما: فهو سيختار تحكيم دينه، فيصبح اختيار الشعب هو اختيار ما أمر الله به، فيلتقي أمر الله بأمر الشعب، ولا يكون ثمة تناقض، فالمسلم عليه أن يستجيب لشرع ربه، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
وشرع الله قائم على معرفة الله بحقيقة الإنسان ومصلحته: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (لنجم:32).
ونبيه حريص على مصلحة أتباعه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
والأتباع بمثابة الأبناء للأنبياء، حرصا عليهم وسعيا في مصلحتهم ونفعهم: (لنَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) (الأحزاب:6)
والدين براء من العنت والحرج: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)
والدين يسر كله: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185)
والعلاقة بين الله وعباده أساسها الحب: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(المائدة: من الآية54)
والشريعة فيها مجال واسع للاجتهاد والتوسعة على الناس، وما لا اجتهاد فيه هو العقيدة وبعض الأحكام المنصوص عليها، والشريعة تتيح لبقية الأديان ممارسة أصحابها لدينهم، وهي تحد المسلم إذا شرب الخمر بخلاف الذمي، فأحكام الدين الخاصة بالمسلمين لا تنسحب على غيرهم.
وإذا كانت هنالك أقليات غير مسلمة في المجتمع فيطبق عليها دينها لا دين الإسلام.
وأما إذا كان الشعب غير مسلم، وكان المسلم يعيش فيه ويستطيع ممارسة شعائر دينه دون اضطهاد فهو يستطيع أن يستمر في العيش في مجتمعه ولا يحتاج إلى هجرة إلى بلاد المسلمين.
ثالثا: إن التشريع الإسلامي جاء لمصلحة الناس وسعادتهم، فحكم الله لم يبن على القهر بل بني على الحكمة، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) (النساء:28).
رابعا: الإسلام يعيش وينتشر في مجتمع تسود فيه قيم العدالة والحرية والتسامح أكثر من المجتمعات المستبدة، ولذلك هاجر المسلمون إلى الحبشة، و انتشر في المدينة أكثر من انتشاره بمكة، لأن جو المدينة كان فيه تسامح وليس جوا مغلقا كما كان في أهل مكة، الذي قالوا بلهجة لا تخلو من تحدي: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لأنفال:32)، والذين سعوا لقتل محمد أو إخراجه أو سجنه، قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (لأنفال:30). وعليه فالإسلام وفق تعبيرنا المعاصر ينتشر في مجتمع حر ديمقراطي أكثر من انتشاره في مجتمع مغلق ديكتاتوري.
خامسا: عامة الأنبياء عاشوا في مجتمعات مغلقة ترفض الحوار مع الآخر وتكره التعايش السلمي، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (ابراهيم:13)وهذا موسى يقرر قومه قتله: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر:28)وكان فرعون قد هدده بالسجن من قبل، (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء:29). وعموما لم يجد الأنبياء وأتباعهم إلا القتل والأذى من الطاغوت، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران:21).
سادسا: يجب أن لا تشغلنا المسميات عن ما وراءها من مضمون، فالديمقراطية فيها مساحة كبيرة من الحرية وحقوق الإنسان تتوافق مع مقاصد الأديان جميعاوليس الإسلام وحده، وهي بحق قد تكون أفضل نظام وضعي أنتجته البشرية عبر التاريخ للتعايش السلمي فيما بينها، ولكن لا مقارنة بينها وبين الدين، فالدين نظام شامل للحياة بشقيها الواقعي والروحي، بينما تعنى الديمقراطية بالعملية السياسية والاجتماعية دون غيرها، والدين رباني المصدر، فهو أسمى من الديمقراطية على أية حال التي هي نتاج ثقافة بشرية، ونقصد بالدين هنا الدين الصحيح الذي جاء به الأنبياء بعيدا عما ألبسه الناس للدين من مسوح البدع والخرافات والتشويه عبر القرون، كما أن الشورى وهي جزء من المفهوم الديني للسياسة تختلف عن الديمقراطية أيضا، يقول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه: (أزمة العقل المسلم) صفحة (112) من الطبعة الثانية: (إن مفهوم الشورى ينطلق من منطلق ويقصد إلى مقصد غير منطلق الديمقراطية وغير مقصدها وإن تشابه معها في بعض الوجوه في الحاجة إلى الالتزام برأي الأغلبية إذا غمت الحقيقة، وقامت الحاجة إلى قرار لا سبيل إلى الإجماع فيه، لأن الأغلبية مظنة الصواب، وقرارها يمثل القاعدة السياسية الأدنى التي لا بد منها لإنقاذ أي قرار عام، ومؤسسات الشورى وأنظمتها لا بد أن تعكس طبيعة الشورى في طلب الحق والخير ضمن مقولة الوحي ومقتضيات الفطرة والسنن، وهي بذلك لا بد أن تختلف عن أنظمة الديمقراطية ومؤسساتها وإجراءاتها التي تسعى إلى قرار ذاتي ينبع من رغبات وآراء أعضاء التحالف الحاكم وما يرونه من أمر مصالحهم ومصالح أممهم).
سابعا: إن القول بأن الإسلام ضد الديمقراطية يجعل بعض المثقفين العرب وبخاصة الدارسين بالغرب منهم والمعجبين بالحضارة الغربية، إضافة إلى الغرب نفسه، وجميع أمم الأرض المتمدنة، يجعلها تنظر للإسلام على أنه دين لا يناسب هذا العصر، وهو دين تسلط وقمع واستبداد، مع أن طبيعة الإسلام مناقضة لذلك، (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) فهو يختلف مع الديمقراطية في نقاط، ولكن ليس نقيضا لما فيها من قيم إيجابية.
ثامنا: منذ عهد الأفغاني ومحمد عبده وحتى عصرنا نجد كثيرا من علماء الدين ودعاته يجدون في الغرب ملاذا لهم أحيانا، ومجالا للدعوة أحيانا أخرى، ولو كان الغرب غير ديمقراطي لما أمكن لهؤلاء أن يذهبوا إليه أو أن يعيشوا فيه.
تاسعا: ينبغي دراسة نقاط الالتقاء والاختلاف بين الديمقراطية والدين، ولا شك أن محاسن الديمقراطية وإيجابياتها تتفق مع الدين، بل هي موجودة في الدين بشكل مفصل وموضح ولكن جل المسلمين غفلوا عنها.
عاشرا: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، ويد الله على الجماعة كما ذكر النبي عليه السلام، وعملية الاقتراع في عصرنا هي تكاد تشبه إلى حد ما عملية البيعة فيما مضى، ولا يشترط أن يوافق الكل بنسبة 100% على الحاكم حتى يكون شرعيا، فيكفي موافقة الأكثر، والناس من طبعهم أن لا يتفقوا جميعا على رجل واحد.
أحد عشر: ينبغي عدم التسرع بالأحكام فنقول عن الدين ديمقراطي، كما سبق وأن ألبسه البعض جلباب الاشتراكية من قبل، قال أحمد شوقي:
الاشتراكيـــون أنت إمامهم
لولا دعاوي القوم والغلواء
فهذه مذاهب أرضية نتاج ثقافة الإنسان، تتبدل وتتغير تبعا لأحواله وظروفه، كما لا ينبغي أن نقول عنه إنه نقيض الديمقراطية، لأن نقيضها الاستبداد، ولكن هنالك نقاط تقاطع ونقاط اختلاف، وما في الديمقراطية من قيم إيجابية من مشاركة وعدل وحقوق الإنسان فذلك كله من مقاصد الإسلام وعامة الأديان والشرائع، وليس أضر على الدين من الظلم والاستبداد وتكميم الأفواه، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (ابراهيم:9)
اثنا عشر: إن مسألة الحكم لله أي الأمر لله، لا تعني الشئون المدنية للناس التي تركها الشارع للناس ينظمونها بأنفسهم، فالبلديات والمدارس والمؤسسات والطرقات والعمران موكول إلى الناس (أنتم أعلم بشئون دنياكم)، وإنما يحكم الدين في علاقات الناس ويوجههم نحو الأفضل حتى يكتمل بناء المجتمع روحيا وماديا، فلا يكون هنالك ظلم، ولا تأكل طبقة أخرى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2)
ثلاثة عشر: إن الدين يؤمن بالتعددية العرقية والثقافية للناس، ويدعو الجميع إلى التعارف والتنافس والعمل الصالح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، وهذه الآية ينبغي أن تكون منهاج عمل المسلم المعاصر.
أربعة عشر: إن التعبير عن الرأي مكفول في ديننا، لذا لا ينبغي لبعض أهل العلم أن يحجروا على الناس التعبير عن آرائهم بأية طريقة سلمية أو قانونية تعارف عليها الناس في هذا العصر عبر وسائل الإعلام المتعددة، لئلا ينسبوا الدين الحنيف للتخلف والقمع وهو منهما براء، فلقد دعا الدين إلى أن يظهر الآخرون آراءهم وحججهم وبراهينهم ويعبروا عنها في حضرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:111).
خمسة عشر: الأصل أننا أمة حقوق الإنسان كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) وقد وقع من بعض المسلمين بحكم أنهم بشر وليسوا ملائكة معصومين تجاوزات عبر تاريخهم في مسألة الحريات وحقوق الإنسان، فلا ينبغي تضخيمها وتعميمها، إذ يبقى الخير موجودا في هذه الأمة، وأما ما وقع في العصر الحديث من انتهاكات لحقوق الإنسان فهذا كان بتشجيع المستعمر الذي له معايير مزدوجة، ويكيل بمكيالين، ويتدخل بكل صغيرة وكبيرة من شئون المسلمين، وليس الإسلام هو المسئول عن هذا الواقع المزري الذي صنعه جهل المسلمين بالتعاون مع حقد أعدائهم فتم تشويه جمال الإسلام بسبب جهل أبنائه وعجز علمائه وحقد أعدائه.
ستة عشر: الجهاد في سبيل الله لا يتناقض مع حرية الأديان، فقد كان في البداية دفاعا عن النفس والمال والوطن والعرض، ثم صار دفاعا عن الإنسانية وحقوقها حيث كانت!، ولأجل انتزاع حقوق الناس المنتهكة وتحريرهم من جلاديهم صار موجها ضد القوى المستبدة التي تتحكم في الناس وتحول بينهم وبين الدين الجديد، سواء على الصعيد المحلي متمثلا بكفار قريش، أو العالمي متمثلا بملوك الفرس والروم، الذين منعوا شعوبهم أن تتنفس الصعداء، وأن تخرج من القمقم، وفي خطاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقيصر الروم: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين). لاحظ أن الفلاحين ـ الأريسيين ـ لا يمكن أن يختاروا دينا يغاير دين ملكهم، ولو كان الدين الإسلامي يريد إجبار الناس على اعتناقه لما وجد للأديان الأخرى أتباع في البلاد الإسلامية.
سبعة عشر: ما يريده المسلمون اليوم هو التعايش مع الأمم الأخرى ضمن نظام دولي عادل تسود فيه قيم السلام، ويستردون فيه حقوقهم التاريخية والمدنية والحضارية، ويسمح لهم فيه بالمشاركة الفعالة لبناء عالم جديد، ولذلك لا بد من التأكيد على حوار الحضارات والمذاهب والثقافات بين المسلمين وغيرهم في هذا العالم، ولا بد من التفرقة بين حق الدفاع عن النفس والوطن وبين الإرهاب وبخاصة الإرهاب الدولي الذي اكتوى المسلمون بناره عن طريق الاستعمار في هذا العصر ومخططاته الجهنمية في تدمير مقومات القوة الحضارية لهذه الأمة، قال الشاعر:
قتل امرئ في غابةٍ
جريمة لا تُغتفر
وقتل شعبٍ آمنٍ
مسألةٌ فيها نظر
ثمانية عشر: إننا ندعو المسلمين وعلماءهم على وجه الخصوص ـ وهم أهل لذلك إن شاء الله ـ أن يقرؤوا تجارب الأمم الأخرى، ويستفيدوا منها في تطوير المجتمعات الإسلامي، وأن يجعلوا من التعدد الفكري والمذهبي ساحة للتواصل والحوار بين الناس وليس وسيلة صراع مذهبي ومحلي ودولي. فالتعدد فسيفساء اجتماعية لا بد منها، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:118-119).
كما ندعو الغرب وعلماءه أن يبتعدوا عن التعصب الكريه ضد الإسلام والمسلمين، وإلى الشفافية والموضوعية في التعامل مع الإسلام، ليقرؤوا الإسلام بصدق فإنهم إن فعلوا ذلك بصدق لا يملكون إلا أن يمدحوه كما فعل جوته وغوستاف لوبون وهونكة، وكارليل، وبرناردشو، ومحمد أسد وغيرهم، أو يعتنقوه كما فعل غارودي أو موريس بوكاي وكثيرون، وعليهم أن يفصلوا بين حقائق الإسلام وواقع المسلمين المهين الذي ساهمت في صنعه عوامل شتى منها الاستعمار الغربي على وجه الخصوص.
تسعة عشر: الديمقراطية لا ينبغي فرضها بالقوة، أو بالأساليب غير المشروعة، ولا تأتي على طبق من ذهب من السماء، وإنما تأتي بالسعي والعمل، وينبغي أن لا نصورها على أنها المفتاح السحري لحل مشكلات الناس جميعا، لأن نهضة الأمم تحتاج إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وفكرية وسياسية تتوافر جميعا من أجل البناء.
والخلاصة إن الدين لا يرفض الديمقراطية رفضا مطلقا، ولا يقبلها قبولا مطلقا، فهناك مساحة تتقاطع فيها دائرة الدين مع دائرة الديمقراطية، لذا فإن المشروع الديمقراطي أقرب إلى الدين على كل الأحوال من مشاريع الهيمنة والاستبداد، فلا ينبغي تنفير الناس من الدين بجعله عدوا للديمقراطية، وصنوا للاستبداد، ومن ثم صنوا للفساد الاجتماعي والأخلاقي، لأن وظيفة الدين الأولى في الحياة هي تطهيرها من الظلم والفساد، (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، ومن الظلم للدين وللحقيقة أن نصدر الأحكام المقولبة الجاهزة البعيدة عن التحليل ودراية الواقع برفض شيء معين أو قبوله بعيدا عن التفسير والدراسة والتحليل. والله الموفق.
د. محمد رفعت زنجير
ناشري