في أفق من العتمة والبلاهة .. في هالة من
الغيوم الرمادية الكئيبة ، وفي تلاطم الأمواج المنفعلة علي صخور الشاطئ كان
العام ينسحب إلي حالة متأبطا حكايات الناس ودهشتهم .. كانت شوارع المدينة
شبه خالية ، متروكة للضجر .. كأن العام الجديد يحمل للناس كارثة قومية ،
والحال أنهم اختاروا البقاء في بيوتهم تفادياً للحزن . أجل الحزن في مدينة
يحكمها الخوف والموت معاً .. كان الضباب هنا سحنة حمراء كلون “النيون” وتلك
هي عادة سحنة كل المدن الجنوب إفريقية .. الخطوط الكهربائية الهزيلة تعلن
عن أسماء المطاعم ، والسينما والفنادق الراقية التي لا يدخلها كل الناس ..
لكن في قلب الليل الحزين والصامت هذا ، كان الحدث الحقيقي ، المأساوي هو
احتضار “جابو” والد “نجوما” …
علي اللافتة الكهربائية التي ينعكس عليها اسم ”
فندق البحر ” حيث من هناك يبدو البحر مختفياً تماماً خلف الضباب المزمن ..
كان ضوء اللافتة ينعكس داخل الغرفة المظلمة فكان يلامس طلاء الجدران
المبلل بالرطوبة .. كانت بقع الضوء تلامس اللوحة الزيتية المعلقة فوق
السرير ، كانت بقع الضوء أيضاً تسقط علي الوسادة ، وعلي وجه “جاوب” علي أنه
الضخم العنيد وعلي الأهداب البارزة والجبين العريض المتعالي وعلي الشعر
الأبيض الأشعت .. كان “جابو” بهذا الشكل يشبه محارباً أسطورياً في لحظة
سكون إلي الليل مع أن الحقيقة الوحيدة تقول أن “جابو” ينام ليلته الأخيرة
علي فراش الموت ، كان “نجوماً ” يرغب لحظتها في قتل شعور الضجر الذي تملكه
تمني لو يستطيع أن يمد يده إلي كتاب أو أي شئ آخر يتسلي به ، لكنه خشي أن
يصدر ضجيجاً يوقظ والده .. حاول أن ينام ، لكن شخير والده منعه من ذاك ..
تذكر ما قاله الطبيب “سوف ينتهي قبل الصباح ” وفكر في العام القديم الذي
سينتهي قبل الصباح أيضاً .. كان ، نجوماً يصغي إلي أنفاس أبيه وهي تصدر
خشخشة غريبة ومفزعة .. كان يشعر بالتعب والغثيان داخل غرفة تنشر روائح
الأدوية والموت المقبل ، ثم فجأة .. إكتشف بحاسته العميقة أن والده مستيقظ ،
وأنه يتعمد التنفس بهذا الشكل المفزع ، ليس لأن “جابو” بحاجة إلي إستنشاق
الأوكسجين ، بل لأنه يشعر أن الموت يستدعي ذلك ، فعندما ينام المرء علي
فراش الموت ، علي أنفاسه أن تتخذ شكلاً مميزاً .. نظر إلي أبيه مرة أخري ،
ثم أحس أنه غير قادر علي المكون طوال الليل هكذا .. تساءل بينه وبين نفسه: ”
لماذا يريد أن يبدو كملك أسود مفوض من سلطة عليها ؟؟! ” .
- يا ألهي ، نجني من الحياة السفلي ،
ساعدني علي الموت وإيجاد الراحة الأبدية ..
قالها “جابو” ثم أدار رأسه نحو الجدار … كانت جملته تلك كافية لتجعل ”
نجوماً ” يغادر مقعده ويتقدم من فراش أبيه .. انحني عليه معدلاً الغطاء
فوقه وكأن “جابو” أحس بقرب إبنه منه ، قال مرة أخري .
- يا ألهي ، نجني من مخالب الأشرار ، من أيدي الظالمين ..
” يا له من ليل ؟ ” فكر ” نجوماً وهو يدنو من
النافذة .. كان النيل ثقيلاً ومملاً للغاية .. فكر في الحياة التي عاشها من
قبل ، فكر في الحياة التي سوف يعيشها من بعد ، ولا شئ سوي الفقر والحرب ”
نجوماً ” عامل في مكتب البريد .. عمله يقتصر علي تصفيف الرسائل وختمها
يومياً ، وهو عمل بلا معني ربما لهذا السبب ، اختار طلب إجازة من شغله كي
يلازم والده في ساعاته الأخيرة ، معتقداً أنه سوف يستغل الوقت في الاستمتاع
والاسترخاء ، ولكنه في هذه الليلة بالذات يشعر بأنه لا فرق بين الحياة
والموت أما “جابو” فكان تاجراً بسيطاً ، يكاد دكانه يخلو من كل شئ .. هكذا
هي طقوس الحياة هنا .. حياة تحددها الألوان .. “جابو÷” و “نجوما” زنجيان في
مدينة تضطهد الزنوج وتصنع جداراً مهولاً بين ضفتي الوجود … من الجهة
الشرقية يسكن البيض ، ومن الجهة الغربية المعزولة ، يسكن السود ، ولا شئ
يجعل ضفة تلتقي بأخري ..
- يا إلهي ، خلصني من الأشرار .. امنح لروحي سعادة الانتهاء …
كأن صوت “جابو” اقرب إلي الغناء الجنائزي ..
كان يحدق في السقف شاحباً ..مد “نجوما” يده إلي زر النور فأضاء الغرفة بضوء
أصفر شاحب يطبع الأثاث بطابع المأسأة .
- هل أساعدك يا أبي ؟
- الدم .. الدم في كل مكان .. أراه يسيل .. دم السود … إخواتك يا “نجوما” .
ضعف “نجوما” علي فكيه كي لا يصرخ كان يدرك أن
والده يهذي ومع ذلك لا يملك سوي الشعور بالقرف .. تمني فجأة لو أنه خرج هذه
الليلة ليعيش آخر ليل من السنة التي سوف تنتهي عند حافة الصباح .. مسألة
وقت فقط ” قال الطبيب .. مسألة وقت وينتهي والده ، مسألة وقت وينتهي الليل …
- يا إلهي ، أمنح لشعبي النور ، امنحهم السكينة واطبع قلوبهم بالإيمان ..
يا إلهي “فكر” نجوما وهو ينظر إلي أبيه كلمة تأبينية بمناسبة تاريخية ، ولم يتمالك نفسه ، فابتسم .
- لا يبتسم .. ( قالها “جاوب” وهو يرمق إبنه
بغضب ) لا تبتسم يا إبني ، لأن الذين دفعوا حياتهم فعلوا ذلك بدافع الإيمان
، فعلوا ذلك لأجلك ، لأجل جيلك ..
- عفواً يا أبي ، أنا لم ابتسم ..
- لا تظنني أهذي يا بني ، أنا في كامل قواي
العقلية ، هل تسمعني ؟ الزنوج هم الأصل في هذا المكان .. الزنوج هم الحقيقة
التي حاولوا القضاء عليها .. إنهم أغراب هؤلاء البيض .. مجرد أغراب هل
تسمع ؟؟ ! ( كان صوته هزيلاً بلا حياة ) … ” نجوما ” ..
- نعم يا أبي ..
مد لي يده .. كانت يد “جوبا” خشنة ، وجافة ..
مع ذلك كان انه يشعر بالجاذبية لهذه اللمسة .. وتحولت الجاذبية إلي حزن ها
هو يمسك بيد أبيه .. تلك اليد التي تمناها منذ صار شاباً ، كان يشعر
بالدهشة أيضاً وهو يتأمل شكل الموت .. الموت .. الذي يجعله الآن قريباً من
أبيه بينما الحياة بطولها وعرضها لم تمنح له حميمية كهذه ؟ شد يده بقوة ..
قال ” جوبا ” :
- لا تجعل نفسك عبداً لأحد من البشر يابني ..
- نعم يا أبي …
- …. ” نجوما “
- نعم يا أبي …
شهق ” جوبا ” شهقة مفزعة .. كان وجهه يتقلص
تحت وطأة الألم ، وفجأة .. سقطت رأسه علي الوساد ميتاً .. ساد الصمت ثقيلاً
وموجعاً داخل الغرفة .. كان
” نجوما ” ما يزال منحنياً علي أبيه ممسكاً
بيده الحبيبة وكان فم ” جوبا ” مفتوحاً كأنه سوف يستعيد الكلمة ليقول ما لم
يتمه من كلام .. كان ” نجوما ” حائراً ، كيف يتصرف ؟ أحس بالرعب وهو يتذكر
أنه لا يستطيع التحرك قبل الصباح ، حتي الجيران لا يمكنه إيقاظهم . ماذا
سيقولون له إن هو تجرأ واستنجد بهم ؟ سوف ينتظرون إليه نظرة شزراً متهكمة
ثم سيقولون له : ” اسمع يا نجوما أبوك مات في فراشه ، فانظر حواك .. كم من
رجل مات في سريره ؟ الموت في الشوارع ، في الحقول وفي المصانع .. الموت في
كل مكان والذين يموتون يومياً دفاعاً عن لوننا وكرامتنا هم الشهداء فقط ..
ارتدي سترته وغادر البيت .. كان بحاجة إلي الخروج ، والتفكير بحرية .. فكر
في الاتصال بأحد مكاتب الدفن ليقوموا عنه بإجراءات دفن “جوبا” .. كان
الهواء في الخارج ملوثاً بالدخان ، ومع ذلك استنشقه ملء صدره ، ثم مضي
باتجاه الإمام .. كان الليل ينسحب وخيوط ، الصباح تبدو ظاهرة ، تؤكد أنه
العام الجديد .
(*
) جوهان نيكولا ، كاتب من جنوب إفريقيا .. ولد في جوهانس بورج ، سنة 1957 م
.. درس في فرنسا .. يكتب الشعر أيضاً ومن إصداراته القصصية ، امرأة من فرح
، نهار الغضب ، الزنوج يعزفون لحن الحياة ، والقصة التي تقدمها للقارئ ،
اخترناها من مجموعته منهار الغضب ، الصادرة في سنة 1990 .
(** ) ياسمينة صالح كاتبة جزائرية وترجمت هذه القصة عن الفرنسية .