بقلم : فاتن نور – كاتبه عراقية تعيش في امريكا (:::)
استغرق النص الإلهي في الترهيب والترغيب، مستهدفا الجسد فيما قدمه من صور عن الجنة والنار، فثواب الآخرة بدا عالقا بإشباع الجسد غرائزيا. وعقابهابقهره، صليه، والتنكيل به بأقصى ما يكون. وليس للروح أي حضور يُذكر في خضم هذا الانغماس بماديات النعيم الجسدي وجحيمه، وتلبيةشهوات دنيويةفي عالم غيبيّ لاماديّ.
واذا كان للثواب الموعود من معنى، يخلص الى رفع الحظر الذي فرضه النص الإلهي على العقل والجسد تباعاولحساب الروح التي ستثاب في الآخرة،فالفائدة المرجوة من رفع الحظر،هي إنهاء آمدالعلاقة النديةالمُفتعلةبين الروح والجسد. إلا أن الروح وبجانب كونها غائبة أو مغيبة فيما قدمه النص، فهي أيضاغير مُعرّفة أو مُبهمة(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.) / (الإسراء: 85)، وهذا يحفزعلى فهم مغاير يحرر مفهوم الجنة والنار من ثقل ماديته المفرط./ وللإمتاع الجسدي المادي صور صارخة في القرآن والمرويات الدينية لم نجد ضرورة من ذكرها فهي بينة ومتداولة.
فإذا كان الجسد هو المُعرّف الحاضر، والمحور لموضوعة الجنة والنار، والروح هي المبهم الغائب، فلم لا يكون الجسد بنعيمه وجحيمه الآخروي رمزا كنائيا عن نعيم الروح وجحيمها، وما التصوير المادي للروح كجسد، سوى محاكاة لمادية العالم الدنيوي، ومقاربة لـ “ذهنية مادية” يعيشها الإنسان محكوما بغرائزه الفطرية وشهواته الجسديةأولا وأخيرا.فمهمة العقل الأولى هي إدارة غرائز الجسد وتلبيتها بشكل جيد دون هتك أو كبح، فما ينتجه العقل من آثار فكرية وثقافية ينبع من آثار الغرائز ونداءاتها،ليعود عليها بفوائد التنظيم ضمن عقود إجتماعية وقوانين وضعية تحقق التوازن النفسي لإنسان المجتمع.فالثقافة الكابحة للغرائز، أو التي أنتجت قوانين صارمة تحكم الغرائز وتحاصرهاباللاممكن، أوالممكن الصعب حد الإحباط والجزع والفشل، لا تبدو ثقافة سوية، لأنها تحاول قهر مهمة العقل الأولى التي لا تقهر بأي حال لكونها من فطرة الخلق.
اما العقاب فوسيلةردع دنيوية،تحقق أغراضها بانصياع الإنسان لشريعة الرب والقبول بتعالميه ووصاياه خوفا من العقاب وطمعا بالثواب.بمعنى آخر، أهل الجنة هم حصاد الرب المرجو من وراء ترهيب أهل الدنيابنار الآخرة وترغيبهم بثوابها، ولا حصاد آخر ممكن أن ندركه من وراء إنزال العقاب فعلا على من لم يرتدع، فتنفيذ العقوبة بعد الإخفاق يبدو ناشزاعن أصل الغرض “الردع والانصياع”، ولا يحقق أي قيمة منظورةفي عالم الآخرة، لاسيما وأن الرب لم يحدثنا عن فرصة أخرى لأهل النار في حياة ثانيةيزاولونهامرتدعين بذاكرة الجحيم الذي ذاقوه، فالخلود “الآخروي” أيا كان، حليف الإنسان بعد الحساب وفقا للنص.
السؤال: هل أخفق الإنسان في فهم الغرض الدنيوي وراءالترهيب من النار،فتصوره عقابا فعليامع سبق الإصرار والتنفيذ؟
هذا السؤال يحيلنا الى موضوعة “الحقيقة والمجاز في القرآن”، المختلف عليها ما بين منكر ومجوّز. وغالبية علماء الدين من المذاهب الأربعة وخلافها، وعلماء اللغة والبيان،هم من المجوزين وحسب اطلاعنا.. ويقف ابن تيمية على رأس قائمة المنكرين فهو أول من انكر المجاز في النص الإلهي وفي معرض حديثه عن الشريعة والتوحيد على وجه الخصوص، كما انكره في اللغة بشكل عام وفي هذا بعض بؤس.ولم يسبقه الى نكران المجاز سوى نفر قليل من أهل العلم والدين. وقدحذا حذوه من تأثر به سائرا على خطاه،مثل ابن القيم الجوزية الذي بالغ في إنكاره للمجاز فصوره طاغوتا. ولسنا بصدد سرد حجج ومسوغات كل فريق، أو أنواع المجاز وتصنيفاته، إلاّأن الحجة الكبرى لفريق الإنكار بتصورنا،هي الخشية من تحريف حقائق القرآن بتأويل نصوصه حسب المزاج والهوى.مع أن المنكرين للمجاز وقعوا في مطباته مأولين. فهذا ابن تيمية كبيرهم، وعلى سبيل المثال،يرى ملامسة النساء، في قوله تعالى (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.) / (المائدة: 6)، كناية عن الجماع، وهذا صرف واضح عن معنى اللمس الذي يستدعي الوضوء في الآية،فالجماع يستدعي الاغتسال.
ما يهمنا في موضوعة المجاز، هو جمهرة المجوزين له، ففي الوقت الذي هم فرقاء فيما بينهم، فكل يصرف اللفظ الى مجازاته التي يريد، والتي تخدم ايديولوجيته العقائدية فتكسبها قدسية إلهية تحت سقف نفس الدين، قد أجمعوا على الفهم الحرفي- المادي لموضوعة الجنة والنار، بكل ماورد عنها من توصيفات سواء في النص الإلهي أو الحديث وخلافه، ولم نجد ما يشير الى فهمها فهما مجازيا أو كنائياأو رمزيا من كلا الفريقين. وهذا ما يثير دهشتنا فإجماع رجال الدين على أي أمر كان لا يعني بالضرورة صحته والتسليم به كيقين يغلق باب الشك والجدل، لا سيما هنالك ما يحفز على فهم مغاير لمسألة الثواب والعقاب،ومنه الصورالمادية للجنة، فهي منشأ من ذهب وفضة له مداخل وأبواب، وبه أنهارمن خمر وعسل مصفى وحدائق وأعناب وكواعب أتراب..الخ، وهكذا بالنسبة لتوصيف النار. وصورالإستغراق في الشهوات والغرائز الجسدية من أكل وشرب وخمر وجنس.كل هذه الماديات لا تتسق مع الروح المزمعة التي سيكونها إنسان الجنة، ولا مع الأجواء الروحانية الطاهرة جوارالرب وملائكته.أما الصورة الجسدية التي سيكون عليها كما هو مسرود في المرويات، فهي صورة مقترحةومعومة خارج علم الأحياءومقتضياته الفيزيولوجية،ولا تحمل نفس خصائص الجسد الأرضية ووظائفة البيولوجية،فالتلذذ في المأكل والمشرب والجنس وما إليه، لا يكون بالكيفية التي يعرفها إنسان الأرض،وهذا يعززميلنالرمزية الصورة التي قدمها النص عن الثواب والعقاب. فالصورجاءت بثيمة دنيوية -ماديةيستوعبها عقل الإنسان،باذخة في الإشباع الغريزي كي يسعى من أجل الفوز بها، وهكذا بالنسبة لأمر النار وعلى طرفي نقيض.
وإذا كان النص الآلهي قد نأى عن التعريف بماهية الروح، فتعريفه بإمتاع الروح كثواب، أو تعذيبهاكعقاب،لا يبدو مجديالبني البشر،أو محفزا لهم، أو مفهوما، فالأصل المبهم، سيكون ثوابه أو عقابه اكثر إبهاما. وفي ذات الوقت سيبدو إخفاقا إلهيا أو سهوا لو حدثنا النص عن متعة شيء غير معلوم، لا يملك الإنسان معرفته بما أُوتيّ به من علم قليل، وفي هذا خروج عن الكمال المطلق للنص ومنتجه.
بصرف الصورالتي قدمها النص الإلهي عن ماديتها الصرفة، تلك الصور التي تحيط بعالم الغيب اللامادي وتمثله،وفهمها فهما رمزيا أو شكلانيا، وبالنظر الى تجسيد اللامادي بالمادي في النص جاء لغرض الإقناع والاستيعاب الدنيوي كضروة، بمثل هذا الصرف سيسقط عن النص الكثيرمن ابتذالات فهمه وتفسيره.
———————
فاتن نور
April, 18, 2012