للنشر
المقالات : 707
| | عبر البحر الأسود الواسع/جين فان ليوفن | |
مقدمة: أليس من الصعب أن تتخيل, أنك تقوم برحلة طويلة خلال عاصفة بحرية, على ظهر سفينة احتشد فيها الركاب إلى درجة الاكتظاظ. لكن هذا ما حدث بالفعل تماما في عام 1620 لـ " بيلغريم" المجموعة البشرية من الإنكليز الذين سافروا عبر المحيط إلى امريكا على ظهر السفينة, و كونوا مستعمرة لهم في ماساكست. كان سفرهم طوال الوقت عبر المحيط الأطلسي, من انكلترا إلى أمريكا على ظهر سفينة سميت ب "ماي فلور". كان البحر هائجا, و كأن المياه في صراع متواتر على جانبي السفينة. بعد ستة و ستين يوما, وصل المسافرون المرهقون إلى أمريكا و ألقوا بمرساة السفينة في البحر. و لكن واحداً فقط من بين المسافرين لم يمت. بعد استكشاف المنطقة, بنى المسافرون لأنفسهم مستعمرة و سموها بليموث. في قصة "عبر البحر الأسود الواسع". سنقرأ رحلة الـ"بيلغريم" المذهلة التي كانوا قد قاموا بها و عن معاناتهم لبناء بيوتهم.
عبر البحر الأسود الواسع " الأطلسي المعروف ببحر الظلمات" ظللت بقرب والدي بينما كانت المرساة تنتزع بعيداً من أعماق البحار . أمامنا شراعٌ أبيض ارتفع باتجاه سماء زرقاء صافية . ارتعشوا , ثم تمايلوا مع الهواء . قاربنا بدأ بالتحرك . والدي كان يلوح بيده للأصدقاء مودعاً . نظرت إلى الخلف إلى وجوههم التي بدأت تصغر و تصغر , ونظرت نظرة إلى البحر الأسود الواسع . و أمسكت بيد والدي . كنا متجهين في رحلة إلى المجهول . قال والدي : إن القارب كان محتشداً بالركاب - ما يقارب المائة , كنا محتشدين تحت ظهر المركب في فراغ منخفض كان والدي يحاول و بشق النفس الوقوف عمودياً , منتصباً . و كان القارب مزدحما لدرجة أنه كان نادراً ما نستطيع التمدد و الخلود إلى النوم. كل شيء كان يمكن أن نحتاجه في الأرض الجديدة , كان كل شيء أيضاً مربوطاً بإحكام و مشدوداً إلى ظهر السفينة : - أدوات للبناء و الزراعة , بعض السلع للتجارة , مسدسات والأسلحة اللازمة للصيد . - طعام , أثاث , ثياب , والكتب. - بعض أقفاص الدجاج , كلبان , و قط برتقالي مخطط . عائلتنا كانت محظوظة , كان لدينا زاوية بعيدة عن الرطوبة و البرد . بينما كان يتوجب على بعض آخر أن ينام في زورق العمل الصغير . كان أول يوم جميل , مع رياح قوية . أمي و أخي كانا مصابين بدوار البحر . ولكن ظللت على سطح المركب أشاهد البحارة و هم يسحبون الحبال , يتسلقون حبال الأشرعة , يجلسون في مكان عال على صاري المركب , يحدقون في البحر. أي حياة رائعة قد تكون , فكرت , أن أكون بحاراً . في أحد الأيام ارتفعت الغيوم عالياً في السماء . العصافير ذات الأجنحة السوداء بدأت تدور حول المركب , و البحر المتلاطم الأمواج كان يبدو غاضباً . سمعت البحار يقول " العاصفة قادمة " كنا جميعنا قد تجمعنا خلفاً بينما أسرع البحار ليلف الأشرعة . لقد توقفت العاصفة.. الرياح عصفت و الأمواج بدأت تحدث ضجة . القارب ارتعد ثم ارتفع عالياً كالجبل وسقط في البحر . بعض الناس كانوا يبكون , و بعضهم الآخر يصلي . اقتربت من والدي خائفاً من الظلام . - كيف يمكن لقارب صغير جداً و عاجز أن يمر في هذا المحيط الضخم ؟ الشمس ظهرت . مشينا على ظهر القارب و جففنا ثيابنا . ولكن فقط عندما جف حذائي أخيراً . بدأت الغيوم تتجمع أكثر, و قلت لوالدي "العاصفة قادمة ". مرّت الأيام , كل يوم كالآخر . لم يكن هناك أي شيء لفعله غير تناول الوجبات من لحم الخنزير المالح , الحبوب , و الخبز , ترتيب مساحتنا الضيقة , النوم عندما نستطيع , و محاولة حفظ الجفاف . عندما لا تكون العاصفة قوية , نتسلق على سطح المركب لنمدد أقدامنا . لكن حتى ذلك الوقت كان علينا أن نبقى بعيدين عن طريق البحارة . كم تقت إلى الركض و القفز و التسلق ! مرة خلال العاصفة ارتدّ رجل إلى الوراء من فوق جانب المركب . حاول الوصول إلى السفينة بأيد خاوية , أمسك بالحبل جيداً و بقوة ثم تماسك . في الأسفل ذهب تحتَ ماء البحر الهائج . حينها, و بمعجزة ,صعد إلى السفينة , و اندفع البحارة إلى جانب السفينة. ساحبين أجسادهم من خلال التسلق على الحبال , جلبوه إليهم و بقارب النجاة أمسكوا به خارج البحر . وأنقذوا حياته . عاصفة تتلو الأخرى . إن شدة الهواء و أمواج المياه كانتا أهم الأسباب الرئيسة في حلحلة العوارض الخشبية التي تؤدي إلى التحطم , و أما قاربنا فقد بدأ ينثقب . القلق بدأ يسيطر على الجميع , الرجال تجمعوا في قمرة القائد للتحدث عما سيفعلونه هل يستطيع قاربنا تحمل عاصفة أخرى ؟ أم يتوجب علينا الرجوع ؟ تجادلوا لمدة يومين , و لكن دون جدوى . في حين فكّر أحد الركاب بالسترة الحديدية لسباق الأحصنة التي كانوا يجلبونها إلى الأرض الجديدة . باستعمالها في رفع الكسور و العوارض الخشبية , أما البحارة فقد وضعوا سارية جديدة في الأسفل , بشكل مشدود و صلب, فسدّت كل الثقوب . و أما قاربنا فقد أبحر من جديد . و بعد ستة أسابيع من السفر , لم تتراء لنا بعد أية ارض على مد البصر . الآن كنا طوال الوقت بردا نين و رطبين . كان رذاذ الماء يصيبنا و يصيب الطهي الذي تقوم به والدتي, لذا لم يكن لدينا أي طعام إلا الخبز الرطب و الجبن, لقد مرض أخي , و الكثير من الرجال مرضوا أيضاً. و بدأ بعضهم يتساءل, لماذا توجّب علينا الرحيل و ترك بيوتنا الآمنة للذهاب في رحلة لا نهاية لها إلى أرض مجهولة . لماذا ؟ سألت أيضاً هذا السؤال لوالدي تلك الليلة . " نحن نبحث عن مكان للعيش حيث نستطيع عبادة الله بطريقتنا الخاصة " , قالها والدي بهدوء . " هذه الحرية نبحث عنها في الأرض الجديدة . و لدي الثقة و الإيمان أننا سنجدها". كان هادئاً جداً و واثقاً من نفسه , فجأةً في اللحظة التي كنت أبحث فيها عن والدي استوثقت من عثورنا عليها أيضاً. لا يزال البحر الأسود الواسع يمتدّ إلى الأمام . ثمانية أسابيع . بل تسعة . وفي أحد الأيام كان أحد البحارة يستنشق الهواء , وفجأة بدأ يصيح " جزيرة إلى الأمام " . لم نجرؤ على عدم التصديق. ولكن حالما رأينا كمية قليلة من الطحالب تطفو على المياه . بعد ذلك رأينا غصن شجرة, و ريشة من عصافير الجزيرة . بعد يومين سمعت الحارس في الفجر يصرخ " الجزيرة ! ". كل شخص كان معافى إلى حد مقبول للوقوف دفع بنفسه إلى ظهر القارب . و هناك عبر الضباب الرمادي رأيناها : خط شاحب منخفض بين البحر و السماء . الجزيرة ! الدموع تدفقت من وجه أمي , حتى الآن كانت مبتسمة . بعد ذلك سقط الجميع على ركبهم بينما ظل أبي يردد صلاة الحمد و الشكر على الدوام. رحلتنا التي طالت قد انتهت فعلاً . رمت السفينة المرساة في خليج هادئ , محاط بالجزيرة . كل ما رأينا كان : رملاً أصفر شاحباً, و أشجاراً سوداء مندفعة إلى الأمام, وكل ما نسمعه الهدوء . ماذا يختبئ بين تلك الأشجار ؟ حيوانات برية ؟ رجال بريون ؟ هل سيكون هناك الطعام و الشراب , هل سيكون هناك ملجأ ؟ ماذا ينتظرنا في هذه الجزيرة . قسم صغير من الرجال ذهبوا في زورق صغير للاستكشاف . طوال الوقت و أنا أراقب على ظهر السفينة بانتظار عودتهم عندما جدفوا على مد النظر جلبوا معهم ملء أيديهم وقوداً للمدفئة و حكايات مما قد رؤوا : الغابات ذات الأشجار الساحرة , التلال الرملية المتتالية , المستنقعات و برك الماء, و الأرض السوداء الغنية . لكن لا وجود لأي بيوت أو حيوانات أليفة أو بشر . و لذلك اتجهنا جميعا إلى الشاطئ . أمي غسلت الثياب التي لبسناها لأسابيع بقرب من بركة ضحلة , بينما تسابقت و أخي للوصول إلى الشاطئ. شاهدنا الحيتان تنفث الماء في الخليج الأزرق الرائع و لأننا كنا نحتاج إلى الوقود سعينا للبحث عنها.فوجدنا القواقع والرخويات , و كانت أول طعام طازج و لذيذ قد تذوقناه منذ شهرين . أكلت كثيراً لدرجة أني مرضت . يوماً بعد يوم توضعت المجموعة الصغيرة خارج السفينة , كنا فقط نبحث عن المكان المناسب لنبني فيه بيوتنا و نستقر . مع الأيام بدأ الطقس يبرد . قطع الثلج تتراقص عبر الرياح . البرد و الرطوبة أوقع الكثير من المرضى ثانيةً . بدا أبي قلقاً و هو ينشر معطفه عليه بإحكام . " و قال: علينا أن نجد مكاناً , قبل أن يأتي الشتاء ." في أحد أيام الظهيرة عاد الرجال مرهقين مع أخبار جيدة . لقد وجدوا المكان المناسب أخيرا. عندما رآه أبي , ابتسم .كان مرتفعاً على تل , مع ملجأ آمن و حقول نظيفة للزراعة و جداول تجري فيها مياه عذبة .بعد ذلك أطلقنا عليه اسم القرية التي منها أبحرنا عبر البحر . كان شهر ديسمبر (كانون الأول ) , جليدياً بارداً و عاصفاً . و الرجال ذهبوا إلى الشاطئ لبناء بيوتهم, بينما الباقي ظلوا بيننا على قارب السفينة . كان يوماً جميلاً لقد عملوا فيه حتى الإعياء. و باعتبار أن نباتات مستعمرتنا بدأت تنبت , كل يوم كان يزداد عدد الذين يمرضون . و بعضهم يموت. كان شتاءً طويلاً و مريراً. أصبح لدينا منازل, صغيرة بدائية. انتهت العاصفة و المرض. في الخارج , الهنود كانوا ينتظرون, يشاهدون و يترقبون. عالج أبواي المرضى, و صلى أبي من أجلهم. لكن عدد الموتى ما زال يزداد. فقط نصف السكان الذين أبحروا من أجل الأرض الجديدة , بقوا على قيد الحياة. في صباح أحد أيام شهر مارس ( آذار ) , بينما كنت أجمع خشب الموقد , سمعت صوتاً عذبا ًغريباً, ناظراً إلى الأعلى, رأيت طيوراً تغني على غصن الشجرة المثقل بالثلج. هل يمكن أن يكون الربيع قد أتى أخيرا ؟ طوال ذلك اليوم تألقت الشمس بدفئها , مذوبة الثلوج . المرض رحل من أسرّتهم . حالاً ازدادت الأصوات المتألقة وعبقت في الهواء رائحة الخشب المجفّف بفعل الشمس. قال أبي " لقد انتهينا منه رحل الشتاء و نجونا منه . و لكن الهنود اقتربوا منا. لقد وجدنا سهامهم و آثار بيوتهم القديمة. و استطعنا رؤيتهم من بين الأشجار. رجالنا اجتمعوا للتحدث عن الخطر الجديد. كيف يمكن لمستعمرة صغيرة كهذه أن تحمي نفسها ؟ المدافع كانت تعلو قمم التلال , الرجال كانوا يتبادلون أدوار الحراسة. و بعد ذلك قام أحد الهنود بالتنزه في مستعمرتنا, متحدثاً إلينا بلغتنا الخاصة , لقد قال : " أهلاً بكم ". صديقنا الهندي رجع و معه رئيسه. اتفقنا على أن نعيش جميعا بسلام. و قد بقي أحد الهنود كي يعلمنا : أين نجد الأسماك في الغدير الفوار, كيف يمكن اصطيادها بالشبك, وكيف نزرع الذرا الهندية, مما يساعدنا على أن يكون لدينا الطعام الكافي للشتاء القادم. عملت و أبي جنبا إلى جنب. قمنا بتنظيف الحقول, زرعنا الشعير, و البازلاء, و خطوط من الذرة. فيما بعد, قمت بحراثة حديقة بالقرب من بيتنا. زرعنا فيها الحبوب التي جلبناها من منازلنا: الجزر, الملفوف و البصل, و الأعشاب المفضلة لدى والدتي : البقدونس, الميرمية, البابونج, النعناع. في كل يوم كنت أترقب ظهور شيء أخضر من هذه التربة السوداء. فرحت أمي عندما رأت ذلك لأول مرة, و قالت : "ربما نستطيع بعد ذلك أن نبني بيتا في هذه الجزيرة". في صباح مبكر من أيام شهر نيسان, أبحرت سفينتنا عائدة عبر البحر, تجمعنا على الشاطئ نرقبها و هي ترحل. الأشرعة الضخمة البيضاء تطايرت مع الرياح, عندئذ, دارت السفينة ببطء و اتجهت مباشرة نحو البحر الأسود الواسع "المعروف ببحر الظلمات" راقبتها كيف كانت تصغر و تصغر, و فجأة نفرت الدموع من عيني. أصبحنا وحيدين الآن. ثم شعرت بيد فوق كتفي. صرخ والدي: " انظروا" , مشيرا إلى التلال, تمتد أمامنا أشعة الشمس في الربيع الدافئ, إنها قريتنا : الحقول امتلأت بالخضرة, سقوف بيوتنا المكونة من القش, الشوارع التي نسقت و رتبت تقريبا كالمدينة. ناداني أبي : "تعال". " لدينا عمل ينتظرنا". و بيده التي ارتاحت على كتفي, عدنا معاً إلى مزرعتنا.
الكاتب : جين فان ليوفن (Jean Van Leeuwen) ترجمة : كرم أسامة منصور (Karam oussama MANSOUR) | |
|