حكومة تركيا كدليل و إثبات
أهمية الموضوع:
قدّمت حكومة العدالة و التنمية ثلّة من الإثباتات على جملة مما كان يُظن أنّه من المستحيلات:
فلقد تحدّث الكثير من السياسيين و المحلّلين (و خاصة الأبواق منهم) على أن الإسلاميين متى وصلوا إلى السلطة استأثروا بها و نقضوا المؤسسة الديمقراطية..
لذا فإن أصحاب السلطة يدوسون على الديمقراطية (في حال وجودها) و يتجاهلونها تجاهلاً معيباً عندما يخوض الإسلاميون الانتخابات، خوفاً من البرامج الخفية، و أسلمة المجتمع، أو أشياء أخرى.
و هم كذلك يشككون في مقدرة الإسلاميين على التعايش مع العلمانية: فلقد راهن الكماليون ـ عشية وصول العدالة و التنمية إلى السلطة ـ على تقويض العلمانية التركية،و زعزعة دعائمها،لذا بدؤوا بإرسال إشارات ـ بل و إيعازات ـ إلى الجيش و المحكمة الدستورية لتنقذ علمانيتهم (باعتبارها نمطاً فريداً).
و هذا يقودنا للحديث عن أهمية المعارضة في الوطن.. و لو كانت غير موالية، بل و لو كان عِداؤها إيديولوجياً و عداء وجود.
و السؤال المطروح هنا: هل الشعب التركي متسقاً مع تطلعات حكومته الراهنة أم ينتظر حلول موعد الانتخابات العامة ليعيد الأمر السياسي التقليدي إلى نصابه؟
و يثور سؤال آخر: ماذا تريد الشعوب العربية و الإسلامية!؟
بمعنى هل تريد حكومة إسلامية تحكمها و كفى! أم تريد حكومة تحقق إنجازات معتبرة على كافة الأصعدة! و لا يهم إن كانت إسلامية أو حتى ماسونية.
هل ملّت شعوب الشرق الأوسط من الشعارات اللّماعة و الخطب العصماء و المخادعات؟ هذه الشعوب التي لطالما عانت من الحرمان و القهر السياسي.. هل مازالت تكترث بالتيار السياسي الذي يدير دفتها بقدر ما هي بحاجة إلى الصدق و الإخلاص و الحكمة و النتائج الملموسة؟
هل يمكن تسمية حكومة العدالة و التنمية حكومة رأي عام!؟ و من جانب آخر هل البراغماتية و الحنكة السياسية تستوجب الخنوع للغرب و التبعية!؟
و بالتالي هل يشترط على دول ما يسمى الوسط، هل يشترط التبعية البكماء للغرب لكي تكون دول لها وزنها و فعاليتها في المنطقة، و هل يستتبع النجاح الاقتصادي لهذه الدول أن تكون بيدقاً بيد المعسكر الأميركي!؟
و من وحي التجربة التركية، هل إيران محقة في سياسة التحدي لأميركا و من لف لفها (5+1)؟
المحاور الأساسية:
ـ التدليل على إمكانية أن يحكم المؤمنون تحت راية نظام ديمقراطي، دون أن يجعلوا الديمقراطية مطية لأجنداتهم السرية.
و هنا بحث مقتضب يؤكد أن الديمقراطية في حوالي 75% منها لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، و بالتالي العدالة و التنمية و من منطلق الفهم العميق للإسلام لا يمارس التقية على اللعبة الديمقراطية، بل يتعاطاها باقتناع و شعور بأهميتها.
ـ إن العدالة و التنمية ذو التوجه الإسلامي (إن صح التعبير) لم يصطدم مع الأتاتوركيين، بل شرع في تنفيذ برنامجه دون الالتفات إلى سفاسف معارضتهم، و بذلك نجحت قافلة العدالة في المضي قدماً و لم يوقفها التلوث السمعي الصادر من حول القافلة الماشية، و بالتالي نجحت تجربة العدالة و التنمية في التعايش الشاق و المحفوف بالمخاطر مع علمانية الكماليين.
ـ إن وجود المعارضة السياسية، و إن كان على طريقة المعارضة الكمالية، لهو أكبر دليل على أهمية المعارضة في الوطن، إذ إن صراع العلمانيين الأتراك الدؤوب مع حكومة العدالة و التنمية، لم يفسح لها المجال لكي تتراخى أو تركن إلى إنجاز، بل فرض على عجلتها الاستمرار في الدوران تحت عنوان "المعارضة لا ترحم".
ـ بيان أن جمهور الترك قد سئم قهر الدولة و العسكر للدين تحت المسمى البرّاق و هو العلمانية، بدليل تجديد انتخاب العدالة و التنمية الذي يسعى لتطبيق علمانية الثورة الفرنسية على أصولها، و بدليل وقوف الأغلبية بجانب حكومتهم حسب معظم استطلاعات الرأي.
ـ لقد أكدت حكومة العدالة و التنمية على أنها لم تلعب على وتر العاطفة الدينية، أي إنها لم تستخدم الدين جسراً للعبور إلى السلطة و من ثم أصبحت وصلة في سلسلة حكام فاسدين، بل إنها سعت لتحقيق مقاصد عليا و حققت أهداف اعترف العالم بها دون أن تركن إلى اصطياد عواطف الجمهور بانتماء أو بكلمات جوفاء تتشدق بها لتحسّن صورتها أمام العامة. و ذلك من عدة نواحي:
1- لم يرضَ رجب طيب أردوغان أن يسمي نفسه أو حزبه بمسميات إسلامية، بل و انتقد من يتاجرون بالدين للوصول إلى مكاسب سياسية، و لا يمكن تفسير هذا الموقف على أنه فقط خوفاً من الصدام مع غلاة العلمانيين.
2- العلاقات الخارجية المزدهرة (ما خلا إسرائيل) ليس فقط مع دول الجوار بل و مع الحلفاء القدامى، و الثقل في المنطقة بحيث أصبحت تركيا مفتاحاً لحل العديد من القضايا الإقليمية.
3- النجاح الاقتصادي الكبير الذي عز نظيره منذ تأسيس الجمهورية.
ـ إذا اعتبرنا مؤسسة الحكم البريطاني مثالاً كبيراً على حكومة رأي عام بمعنى الكلمة، نظراً للتركيب القانوني و التنظيمي و الفعلي.. فإن حكومة العدالة و التنمية قد وصلت إلى مستويات قريبة من المثال الأعلى الآنف الذكر في تحقيق إرادة الشعب و تلمّس تطلعاته.
ـ البرهان الدامغ (على ضوء مسيرة العدالة و التنمية) على دول الوسط، أنه لا تشترط المتابعة للقوى الكبرى متابعة تسلب المصالح الذاتية و المرامي الخاصة بالدولة لكي يكون لها مكانتها في المنطقة و أهميتها في تعاطي عدة محاور. كما لا يعني تحقيق المصالح الذاتية مخاصمة هذه القوى الخارجية، أو ما يسمى بالتحدي الغبي.
و دليل آخر على دول الوسط مفاده أن نجاح اقتصادياتهم ليس رهين العلاقات الممتازة مع أميركا، أو مع دول الغرب و إسرائيل بشكل عام.
فهذه نجاحات الحكومة التركية خارجياً و اقتصادياً و قانونياً أكبر إثبات على بطلان هذا المسعى.
ـ باعتبار أن التجربة خير برهان، فلا ينبغي على إيران أن تسلك مسار التحدي الصارخ لأميركا و الغرب، حيث أنه لا يمنع الاحتفاظ بماء الوجه من مداراة الدول العظمى و كسب المستطاع من ودهم، فطريق التصلب و التعنت و الوعيد (و خاصة لإسرائيل الولاية إحدى و خمسين) لا ينم عن وعي كامل للواقع و لا عن إدراك لمنطق توازن القوى. هذا من جانب، و من جانب آخر مادام لدى إيران طريق دبلوماسي سلمي آخر يمكن و لو بشق الأنفس ارتياده لحل أزمتها، فليس صواباً أن تسلك طريق العناد و التحدي، كدولة و كمنطق أمم.
و لعل الاتفاق الثلاثي الأخير يقظة متأخرة من جانب إيران، من أن سياسة التحدي تحتاج إلى دول عظمى، إذ أن دولة كالصين أو روسيا نادراً ما تنحى منحى الخصومة العلنية للغرب.
و لعل حادثة السفير التركي، تدليل على صحة مقولتنا:
فلقد قبلت حكومة العدالة و التنمية باعتذار إسرائيل على الرغم من أنها تستطيع المضي في معاداتها من ناحية التوجه العلني للحزب الحاكم، و من ناحية عدم قدرة المعارضة على أن تنبس ببنت شفة إذا ما قرر العدالة و التنمية الاستمرار في الخصومة، لأن الأمر تعلق ب:
أ- إهانة للبلاد. ب- تدخل بشؤونها. ج- تأييد الشعب التركي للحكومة (في هذا الموقف على الأقل).
ولكن هذه المواقف التي تبدو لأول وهلة متسامحة مع إسرائيل هي التي تجعل العدالة و التنمية أول من ينتقد إسرائيل و يعرّيها في انتهاكاتها المتكررة (مثل إلغاء مشاركة إسرائيل من نسر الأناضول).
فلقد أثبت العدالة و التنمية أنه أذكى من أن يعادي الابن المدلل للغرب عِداءً أحمقاً، يجعله في مرمى الدول الراعية لإسرائيل.
خلدون حمودة
الخميس مارس 03, 2011 10:42 pm من طرف للنشر